- تاجموتي حر
- عدد الرسائل : 278
العمر : 54
نقاط : 28930
تاريخ التسجيل : 29/05/2009
من هم التتار
الأربعاء 16 مايو 2012 - 16:52
كانت فاجعة ((التتار))، وهمجية ((المغول)) من أعظم ما بلي به المسلمون. ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين.
وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين.
لقد أحجم – في البداية – العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي ((ابن الأثير)) (ت 630هـ) عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا" ([]).
ويقول أيضا: " فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"([]).
وهي عنده أعظم من فـتنة الدجال([])، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: " وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده... ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن" ([]).
هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة(656هـ) وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تـزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها – وسيتضح – حين الحديث عنها – حجم مآسيها وضخامة أحداثها.
كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابق الهجري (699هـ) حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه
في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيـد، كما يتفرقـون كذلك في اليوم الموعود، وفـر الرجل فيها من أخيـه وأمـه وأبيـه، وإذ كان لك امـرئ منهم شأن يغنيه. وكـان من الناس من أقصـى همته النجـاة بنفسه؛
لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. و ذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.
كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الإمتحان تمييزا من الله وتقسيما؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24]([]).
كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام([])جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا،؛ هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت
عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
فلذلك استولت الخيرة على من كان متسما بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] .([])
أمـا المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون وكانوا شيعا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كمـا قد استسلم لهم أهـل العراق والدخـول تحت حكمهم
هذه الحادثة لهولها وشدتها وكثرة أحداثها وترابطها لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها – فذلك ميدانه الكتب المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى لدخولهم ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم ((بغداد)) حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية.
ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الإستفادة من كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة – موضع التركيز في هذه الدارسة -.
* * *
أولا:أصل التتر وعقيدتهم:
هذه الأمة ((التترية)) خرجوا من أراضيهم (بادية الصين) وراء بلاد تركستان([])، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا([]).
وأول ملوكهم ((جنكز خان))، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر، ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم .. وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي([]).
أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم ((كشكي خان))، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب([]).
وتحدث عن التتر الآخرة وملكهم ((جنكز خان)) النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم([]).
ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة 606هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رأسهم يدعى ((كشلوخان)) حتى خرج عليه ((جنكز خان)) فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول([]).
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن ((جنكيز خان)) هو أول من وضع لهم ((ياسة)) – أي شريعة- يتمسكون بها([]).
قصد التتر العالم من حولهم ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم،وقد جود الموفق البغدادي وصفهم – كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجـي سكان
براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون([]).
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلابوالخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"([]).
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه.
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتعمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام – وهو جمهور العسكر- ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من
غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى..."([]).
ثانيا:البواعث الأولى:
تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخـلافة العباسية.
1- بين الخوارزميين وملوك الخطا:
وتبدأ أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن محمد بن نوشتكن، وتوفي سنة 568هـ([]).
ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب الخطا بعد حروب عظيمة، ثم توفي سنة 596هـ([]).
كما نقل عنه الذهبي أنه تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان، وهو الذي أزال دولة السلاجقة ([]).
ثم جاء بعده ابنه محمد الذي قصد الخطا سنة أربع وستمائة في جيش عظيم فالتقوا وتمت بينهم مصافات، ثم وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل خلق وأسر السلطان محمد وأمير من أمرائه، ولم يخرج من الأسر إلا بحيلة وعاد إلى خوارزم(
وفي سنـة 606هـ عبر خوارزم شـاه (محمـد) جيحون بجيوشه فالتقـاه طاغيـة الخطا (طاينكـو) فانهـزمت الخطـا وأسر ملكهم وهزموا
هزيمة منكرة، وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى، وعلى أثرها تملك (خوارزم شاه) بلاد ما وراء النهر مدينة مدينة ناحية ناحية([]).
أما ملوك الخطا هؤلاء فهم قوم كفار، وقد طالت أيامهم في بلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها حتى ضاق المسلمون ذرعا بهم وكتب سلطان سمرقند وبخارى- وكان كما ذكر ابن الأثير: عريق النسب في الإسلام والملك- يقول الخوارزم شاه: إن الله عز وجل قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة والسكة. فأجابه محمد بن خوارزم شاه وعبر إليه نهر جيحوني ووقعت المعركة كما سبق([]).
2- بين ملوك الخطا والتتر:
استـفاد التـتر من كسر الخوارزمييـن لملوك الخطـا وتـقووا بكسر خـوارزم شاه لهم، ووقعـت بينهم حروب، وكان رأس التتـر حينها يدعى ((كشلوخـان)) فكتب ملك الخطـا إلى خـوارزم شاه يخوفه بالخطـر
الجديد ويطلب إليه أن يتعاون معه في كسر التتر ويقول: "ما جرى بيننا مغفور؛ فقد أتانا عدو صعب فإن نصر علينا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تـنجدنا". فكتب إليه ((خورزم شاه)) ما يفيد بموافقته، وأنه قادم لنصرته، وكتب لـ((كشلوخان)) التتري رسالة أخرى قال فيها: إنني قادم وأنا معك على الخطا – قال الذهبي: وكان بئس الرأي([]) - فالتقى الجمعان ونزل خوارزم شاه بإزائهما يوهم كلا من الفريقين أنه معه وأنه كمين له، فوقعت الكسرة على الخطا، فمال خوارزم شاه حينئذ معينا لكشلوخان، واستمر القتل بالخطا، وانضم منهم خلق إلى خوارزم شاه، وخضع له كشلوخان وقال: نتقاسم مملكة الخطا، فقال خوارزم شاه بل البلاد لي وسار لحربه، ثم تبين له قوة التتار فأخذ يراوغهم، فبعث إليه كشلوخان يقول: ما هذا فعل ملك؛ ذا فعل اللصوص، فإن كنت ملكاً فاعمل مصافاً بيننا فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أن أفعل أنا بك ذلك، فلم يجبه خوارزم شاه إلى ما طلب([]).
3- بين الخوارزميين والتتار:
خـرج على ملك التتـر الأول ((كشلوخـان)) تتـر آخرون بزعامـة
((جنكز خان)) النهرجي، فانشغل بهم كشلي خان وتحاربوا مدة وظفر ((جنكز خان)) وطغى وتمرد وأباد البلاد والعباد، وأخذ أقاليم الخطا، ودانت له قبائل المغول بعد أن ظفر جنكز خان بابن كشلوخان ولم يكن له معه كبير أمر([]).
أما أول مصاف كان بين خوارزم شاه وجنكز خان فقد كان بقيادة ابن جنكز خان (دوشي خان) سنة 606هـ (هكذا ساقها الذهبي ضمن أحداث هذه السنة وإن لم يصرح به)، وعلى الرغم من انتصار خوارزم شاه في هذه المعركة إلا أنه عاد مهموما قلقا لما رآه من قوة هذا العدو وكثرتهم وشجاعتهم([]).
ولذلك خطر ببال خوارزم شاه أن يكتشف التتار بنفسه فدخل فيهم هو وثلاثة معهم متسترين بزي التتر، فقبض عليهم وقتل اثنان منهم وفر خوارزم وآخر معه في الليل، وذلك سنة 615هـ([]).
أ_ دور الخوارزميين في دخول التتر بلاد المسلمين:
قويت شوكة خوارزم شاه وتملك سنة 611هـ كرمان ومكران والسند وخطب له بهرمز وهلوات، وكان يصيف بسمرقند، وإذا قصد بلدا سبق خبره.
وفي العام الذي يليه توثب خوارزم شاه على ((غزنه)) فتملكها، وهزم صاحب الروم كيكاوس الفرنج وأخذ منهم ((أنطاكية)).
ثم قصد بغداد واستعد له ((الناصر)) ولكن الله صرفه عن بغداد([]).
أما الحادثة المهمة في هذا السياق والتي كانت بداية غزو التتار فهي حين أحس جنكز خان بقوة خوارزم شاه وسعة ملكه، وبعث إليه رسولا يطلب الهدنة معه لإعمار البلاد وإصلاح الإقتصاد ويقول: إنه ما يخفى عليّ عظم سلطانك، وأنت كأعز أولادي، وأنا بيدي ممالك الصين فاعقد بيننا المودة، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد، فأجاب خوارزم شاه إلى الصلح – بعد أن عرف من الرسول سعة ملك جنكز خان – فأعجب ذلك جنكز خان ومشى الحال([]).
لكن هل استمرت الهدنة ؟ وكيف نقضت؟ وما أثر هذا النقض في دخول التتر بلاد المسلمين؟ هذه أسئلة مهمة؛ والإجابة عليها تكشف لك البواعث الأولى لمجيء جحافل المغول ودخول التتر بلاد المسلمين.
ذكـر ابن الأثيـر – وهو من أقرب المصـادر لهذه الفتـرة ([]) – أن جنكز خان سير جماعة من التجار والأتراك ومعه شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر: سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى ((أوترار)) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب([])هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم، وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس إلى جنكز خان لينظر ما هو؟ وكم مقدار ما معه من الترك؟ وما يريد أن يعمل؟
فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم(.
ب- ندم خوارزم شاه ومشورته:
وعلى الرغم من تجلد خوارزم شاه وفعلته فقد ندم على ما صنع، وأصابه همٌّ وغمٌّ وتحفز استشار لأجله من حوله من العلماء والأمراء.
فقد أحضر الشهاب الخيوفـي – وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به – فحضر عنده فقال له: قد حدث أمـر عظيم ولا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله؛ وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية التـرك في كثرة لا تحصى، فقال له: في عساكرك كثـرة وتكاتب الأطراف، وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتـك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب "سيحـون" – وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام – فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيـدة لقيناه ونحـن مستريحون وهـو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
وجمع خـوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أربـاب المشورة فاستشارهم فلم يوافقـوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن تتركهم يعبرون "سيحـون"
إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها؛ فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد([]).
ثالثا:غزو التتـر ومآسيهم في بلاد المسلمين:
وقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبينما السلطان الخوارزمي ومن حوله يتشاورون بشأن التتر إذ ورد رسول جنكز خان ومعه جماعة يتهدد خوارزم شاه ويقول: "تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم، استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به".
فلما سمع خوارزم شاه الرسالة أمر بالرسول فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكز خان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك.
وبالفعل تجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادرا ليكسبهم وسار أربعة أشهر حتى وصل إلى بيوتهم فلم يجد فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية.
وكـان غيبة التتـر الكفار عـن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربـة ملك من ملوك التـرك يقـال له كشلوخـان، فقاتلـوه وهزمـوه – كـما سبـق
البيان – فلقيهم في الطريق خبر خوارزم شاه وما صنع بمخلفيهم، فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم فتصافوا واقتتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، مدته ثلاثة أيام، وأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم، وجرت الدماء غزيرة على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه من كثرته
1- مأساة التتـر في بخارى المسلمة:
عاد المسلمون بعد هذه المنازلة إلى بخارى وطلب إليهم خوارزم شاه التحصن بها وحمايتها ريثما يعد العدة للتتـر من خوارزم وخرسان، ولكن هؤلاء التتـر عاجلوا المسلمين بالتوجه إلى بخارى وحين وصلوها حاصروها واقتتلوا مع حاميتها قتالا شديدا على مدى ثلاثة أيام فر على أثرها العسكر الخوارزمي إلى خراسان حين أحسوا أنه لا طاقة لهم بهؤلاء التتـر. واشتد الأمر على أهل بخارى حين أصبحوا وقد ترك العسكر الخوارزميـون مواقعهم فارين إلى خراسـان، ولم يكن أمام أهل البلد إلا أن يطلبوا الأمان، فأعطوا الأمان بواسطة أحد القضاة (بدر الدين قاضي خان). وعلى إثـر ذلك فتحت أبـواب المدينـة في الرابع من ذي الحجة عام ست عشـرة وستمائة،
فدخل التتـر الكفار بخارى المسلمة وأظهروا لأهلها العدل حسن السيرة، ثم توجه ((جنكز خان)) إلى القلعة التي احتمى بها طائفة من العسكر كانوا نحوا من أربعمائة فارس لم يتمكنوا من الهرب مع أصحابهم، وطلب جنكز خان من أهل البلد الخروج معه لمحاصرة هذه القلعة ومن تخلف قتـل، فكانت تلك بداية الإستخفاف والإستذلال لأهل بخارى، فخرجوا خوفا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعـة ففعلوا وبلغ من سوء التتـر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابـر وريعات القرآن في الخنـدق.
وبعد جهد جهيد وقتال مرير، دخل جنكز خان وأصحابه القلعة وقتلوا من بقي بها من جند المسلمين الذين أصروا على الدفاع عن القلعة بكل ما يملكون وحتى آخر لحظة !
وقل توقفت مأسـاة التتـر ببخـارى عند هذا الحـد ؟ كلا، فحين فرغوا من القلعة طلب جنكز خان أن يُكتب له وجوه القوم ورؤساؤهم، فلما عُرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضـروا، وطلب منهم إحضار ((النقـرة)) التي باعهم إياها خوارزم شـاه وقد أخذت من تجار التتـر – كمـا سبق البيـان – فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يدي ((جنكـز خان)) ثم أمرهم بالخروج من البلـد فخرجوا مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفـار البلـد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاطـوا بالمسلمين فاقتسمـوهم ونسائهـم، وكان يومـا شديـدا على المسلمين حتى قال ابن الأثير: وكان يوما عظيما من كثرة البكـاء من الرجال والنساء والولدان ... وتفـرق المسلمـون قددا وتمزقوا كل ممزق، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ولا يقدرون على فعل شيء، ورضي بعض المسلمين بالموت دون ذلك فقاتلوا حتى قتلوا؛ ومن هؤلاء الفقيه الإمام ((ركن الدين إمام زاده)) وولده، وكذلك فعل القاضي ((صدر الدين خان))، ومن استسلم أخذ أسيرا. ولم يرحل التتـر عن بخارى حتى ألقـوا النار في البلد والمدارس والمساجـد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال - فإنا لله وإنا إليه راجعـون .
2- مأساة التتـر في سمرقنـد:
ولم تقف المأسـاة عند حدود بخارى، بل رحل هؤلاء التتـر الرعـاع إلى سمرقنـد يستصحبون معهم من سلم من أهل بخارى أسارى ويسوقونهم مشاة على أقبح صـورة وكأنهم قطيع من الغنم، فكل من أعيا وعجز عن المشـي قتلوه.
فلمـا قاربوا سمرقنـد قدمـوا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثـقال وراءهم حتى تقدمـوا شيئا فشيئـا ليكـون أرعب لقلـوب المسلمين فلمـا رأى أهل البلد سوادهم استعظمـوه فلما كان اليـوم
الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة. وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتـر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم، وكان الكفار التتـر قد كمنوا لهم كمينا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفا على ما نقل ابن الأثير .
فلما رأى الباقون من الجند والعامة – في سمرقنـد - ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند – وكانوا أتـراكا -: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان فأجيبـوا إلى ذلك ففتحوا أبواب البلـد ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفـار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفـار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعـوا السيـف فيهم وقتلوهم عن آخـرهم،
وأخذوا أموالهم ودوابهـم ونسائهم.
ثم نادوا – في اليوم الرابع – في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا معهم مثل ما فعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد، وأحرقوا الجامع، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة للهجرة فلا حول ولا قوة إلا بالله([]).
3- مآسـي وأحـداث أخر:
ولم تكن فاجعة التتـار لتنتهي عند حدود هاتين المدينتين من مدن العالم الإسلامي رغم ما فيهما من مآسـي وأحزان تكفي الواحدة منهما لتكون ملحمة ترويها الأجيال، ويتعب في سبيل تدوين أحداثها المؤرخون والكتاب، لكن الفاجعة سرت في الأقطار الإسلامية سريان النار في الهشيم، فإثر أحداث سمرقنـد سيّـر ((جنكز خان)) مجموعة من جنده يقال لهم ((المغربة)) لأنهم ساروا إلى ((غرب خرسان)) في طلب ((خوارزم شاه)) وقال لهم: ((اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه)).
وسـار هؤلاء يقطعـون الفيـافي والقفـاز ويحتالـون على عبور الميـاه
والأنهار، وحين اعترضتهم المياه الخمسة في ((ينج آب)) ولم يجدوا سفينة يعبرون عليها عمدوا إلى عمل أحواض من الخشب وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة([]).
ومع أن المسلمين قد ملئوا رعبا من هؤلاء إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر ((جيحون)) يحجز بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، وواصل التتـر مسيرهم وفسادهم؛ يرحلون من بلد إلى آخر وقل أن تسلم بلدة من شرهم، وعاثوا فسادا في نيسابور، وما زندران، والري وهمذان، وأذربيجان، وإربل وغيرها من بلاد المسلمين.
وكان للتتـر عوائد سيئة وجبارة، وحيل ماكرة وخبيثة؛ فمن عوائدهم أنهم إذا قصدوا مدينة ورأوا مناعتها عدلوا عنها إلى غيرها، ومنها أنهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرها([]).
وكانوا يتقون بهؤلاء الأسارى من الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب([]).
وأسوأ من ذلك أنهم يستخدمون الأسارى أداة في استخراج المختفين من بطشهم، فكانوا يقولون للأسرى نادوا في الدروب أن التتـر قد رحلوا، فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل([]).
وهل أسوأ من هذا وأذل ؟ وقد تركت هذه الأحداث المؤلمة أثرها وخلفت حالة من الرعب والهلع عمّ الناس كلهم – إلا من رحم الله -، وأصيبوا بالضعف والمسكنة والمذلة والهوان، ويكفي شاهدا على ذلك ما سطره المؤرخون المعاصرون للحدث وغيرهم؛ فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلا من التتـر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء([]). وأن آخر من التتـر أخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى جاء التتري بسيف وقتله به([]).
قال ابن الأثير: بلغني أن امرأة من التتـر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرا([
وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس من التتـر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب ؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا. هذه حكاية يرويها ابن الأثير عن شاهد عيان، ثم يعلق عليها بقوله: وأمثال هذا كثير([]).
وقال أيضا: ووصل الخبر إلينا ونحن بالموصل أن التتـر ارتحلوا من مدينة ((مراغة)) خوفا من السيف([]).
أما أهل إربل فضاقوا بذلك ذرعا وقالوا هذا يوم عصيب([]).
وما بالهم لا يخافون، ولم لا يكون الفـزع بشكـل عـام من هـذه
الأمة المتوحشـة الظالمة، وقد أحـصى بعض المؤرخين ما قتلوه في يوم واحد في مدينة واحده وهي ((مـرو)) فبلغ سبعمائـة ألف إنسـان([]) !!!
رابعا:أحـداث بغداد وسقـوط الخلافة العباسيـة:
هذه المآسـي الموجعة وهذه الأحداث المزلزلة لم تكن نهاية المطاف لمصائب التتـر في بلاد المسلمين؛ فقد أعقبتها الكارثـة الكبرى والفتنة العظمى بوصول التتـر إلى بغداد وسقوطها في أيديهم وقتل الخليفة العباسي. وانتهاء الخلافة الإسلامية لبني العباس ويحيط الأسى بالقارئ وهو يطالع أحداث هذه السنة، ويكاد الألم يقطع قلب الكاتب وهو يدون أحداث هذه الفترة بآلامها وكوارثها وآثارها ونتائجها. وأسوق نموذجا لوصف الكارثة:
قال ابن كثيـر: ((ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجـال والنسـاء والولـدان والمشايـخ والكهـول والشبـان، ودخل كثيـر من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقـون عليهم الأبـواب فتفتحها التتـار إما بالكسر وإمـا بالنـار، ثم يدخلـون عليهم فيهربـون منهم إلى أعالـي الأمكنـة فيقتلونهم بالأسطحـة، حتـى
تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم إلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
وقد اختلف الناس في كمية من قتـل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة؛ فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي الف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان دخلوهم إلى بغداد في أواخر المحـرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصهم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبـر أبو العبـاس أحمـد وله خمـس وعشرون سنة ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسـر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسـر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل - والله أعلم – فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابـر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه ((المنظـرة)) فيذبح كما تذبـح الشـاة، ويؤسـر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القـرآن، وتعطلت المساجـد والجماعات والجمعـات شهور ببغداد.
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولمـا نودي ببغداد بالأمـان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتـى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكـر بعضهم
بعضا، فلا يعـرف الوالد ولده ولا الأخ أخـاه، وأخذهم الوبـاء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمـر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنـى))([]).
خامسا: أسباب المحنة وعوامل الإنتشـار:
يستطيع المتأمـل في محنة التتـر أن يرصد عددا من الأسباب ساهمت في دخول التتـر بلاد المسلمين، وأعانت على سرعـة انتشارهم ومن هذه الأسبـاب:
1- أسباب قدريـة كونيـة:
ولا شـك أن كل ما يقع في هذا الكـون لا يخرج عن تقديـر الله وإرادته الكونية القدريـة يهيء أسبابه ويقدر أحداثه.
ومن هذه الأسبـاب التي هيأها لهؤلاء التتـر أن زمـن خروجهم اتفـق مع خلـو الأرض من عدد من الملـوك؛ وذلك أن خوارزم شاه كان قد قتـل الملـوك من سائر الممالك واستقـر في الأمـر، وكانت جميع البلاد المتاخمـة لبلاد التتـر تحت أيدي نوابـه، فلما انهـزم أمامهم في النهاية وهرب من أرضه وتخلـى عن سلطانـه خلت البلاد ولم يبـق لهـا من يحميها فساهم ذلك ولا شك في سرعـة انتشـارهم واستئصـال
شأفة المسلمين من حولهم([]).
والذي يلفت النظـر ويؤكـد أهمية هذا السبب أنه انتشـار مذهل عجب منه المؤرخون، ولم يستطيعوا مقارنته بما فعل ((بخت نصّر)) ببني إسرائيل على الرغم من كثرة قتله وتخريبه بيت المقدس.
ولم يبلغ ((الإسكندر المقدوني)) مبلغ هؤلاء القـم على الرغم من ملكه الدنيا كلها؛ وذلك أنه لم لم يملكها في سنة واحده، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء التتـر ملكوا أكثر المعمورة في نحو سنة، وأوسعوا الناس قتلا وإرهابا – كما سلف – ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف يترقب وصولهم.
فكيـف إذا أضفنا إلى ذلك طبيعـة هؤلاء التتـر وكثرة عددهم – إذ هـم يخرجون عن الإحصاء – وقوة بأسهم، وشده صبرهم على القتـال؛ فهم لا يعرفون هزيمة، وعدم حاجتهم إلى غيرهم؛ فهم يعملون ما يحتاجـون إليه من السـلاح بأيهديم، ولا يحتاجـون إلى ميـرة ومـدد يأتيهم؛ فمعهم الأغنـام والبقـر والخيـل وغير ذلك من الدواب؛ يأكلون لحومها لا غيـر، وأمـا دوابهم التـي يركبـون فإنهـا تحفـر الأرض بحوافـرها
وتأكل عـروق النبـات؛ لا تعرف الشعير؛ فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجـون إلى شيء من خارج.
2- ضعف همم ملوك الإسلام وانحسار سلطان الخلافة:
وفي مقابل قوة هؤلاء التتـر وشدة بأسهم واجتماع كلمتهم فقد ساهم في سرعة انتشارهم وسيطرتهم على مدن العالم الإسلامي وحواضره ضعف ملوك الإسلام في تلك الفتـرة بعامة، وانشغالهم عن الجهاد باللهو واللعب. وهذا المؤرخ ابن الأثيـر – يرحمه الله – ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين فيقول معلقا على أحداث سنة 628هـ ما نصه: ((فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين؛ بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...)([]) .
وليسـت أوضاع الخلافـة العباسيـة ولا الخلفاء العباسييـن بمعـزل عن هـذا الوضـع المتردي؛ فقد انحسـر سلطـان الخلافـة وانكمشـت حدود العباسيين، واستقـل غيرهم بالسلطة في حكـم أجزاء من العالم الإسلامـي، وهو أمـر لم يكـن سائغا في ظـل حكـم الدولة الأمويـة، هذا
فضـلا عن اشتغال الخلفـاء العباسيين بالشهـوات وجمع الأمـوال في أكثـر الأوقـات.
هذه الحقائق يجليها لنا ابن كثير عليه رحمة الله في محاولة منه لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية على أيدي التتـر فيقول: ((ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصـار، فإنه خرج عن بني العبـاس بلاد المغـرب ... وكذلك أخـذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهـر وتداولتها الملوك دولا بعد دول حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلا بغداد وبعض بـلاد العـراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات))([]).
ويقول ((الكتبي)) في وصف آخر خلفاء بني العباس وما كان عليه من ضعف الهمة والإشتغال بما لا ينبغي الإشتغال به: ((كان المستعصم متدينا متمسكا بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقظ والهمة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقظ، نازل الهمة محبا للمال، مهملا للأمور يتكل فيها على غيـره))(
ويقول ((قطب الدين اليونيني)) قريبا من ذلك ويضيف: ((.. وإنما قدموه على عمه الخفاجـي لما يعلمون من لينه وانقيـاده وضعف رأيه ليستبـدوا بالأمـور))([]).
وإذا صح ما ينسبه إليه ((ابن العبـري)) من ضعف الهمة وزهده بأقطـار الخـلافة عدا بغـداد فهي طامة كبـرى؛ إذ ينسب إلى ((المستعصم)) قوله: ((أنا بغداد تكفيني ولا يستكثـرونها لي إذا نزلت لهم عن باقـي البـلاد، ولا أيضا يهجمون عليّ وأنا بها، وهي بيتي دار مقامـي))([]).
وعلى كل حال فيبدو أن ضعف ((المستعصم)) معـروف حتى عند ((التتـر)) ولذا كانوا يسمونـه ((الأَبْلَه))([]).
ولا شـك أن استخفاف وزيـره ((ابن العلقمـي)) به، ومخادعته له وخيانته إيـاه وتصريـف الأمور دونه ساهمت في إيصال الخليفة والخـلافة إلى ما صـارت إليه([]).
وفي الوقـت الذي كـان التتـر فيه يحاصرون بغـداد ويحيطـون بدار الخلافـة يرشقونها بالنبـال من كـل جانب ذكـر أن جاريـة كانـت
تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظايـاه وتسمى ((عرفة)) فجاءها سهم من بعض الشبابيـك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفـة، فانزعج الخليفـة من ذلك وفزع فزعـا شديدا، وأحضـر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتـوب: إذا أراد الله إنفـاذ قضائـه وقدره أذهب من ذوي العقـول عقولهم([]).
وأمر الخليفة عنـد ذلك بزيـادة الإحتـراز وكثـرت الستائر على دار الخلافـة، ولكن الأمـر أكبر من ذلك وأعظـم.
ولم يقف هذا الضعـف والهـوان عند حدود دول المشرق الإسلامي، أو ينتهي بضعف مركز الخليفة العباسـي، وضمور سلطان الخلافة العباسـة، بل جـاوز ذلك إلى ملوك وسلاطين المسلمين في بلاد الشـام ومصـر، فقد ذكر ابن كثيـر – في أحداث سنة 658هـ - أن سلطان دمشق وحلب (الملك الناصر بن العزيز)، وملك الكرك والشوبـك (الملك المغيث بن العادل) قد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، ومعهما الأمير ركن الدين (بيبرس البندقداري)
وقبل ذلك ذكـر ((الذهبـي)) أن عسكـر الناصـر سار سنة 656هـ
وعليهم ((المغيـث)) بن صاحب الكـرك، ليأخذوا مصر، فالتقاهم (المظفر قطز) وهو نائب (للمنصور علي ولد المعز) بالرمـل فكسرهم وأسر جماعة أمراء فضـرب أعناقهم([]).
وقبل ذلك كذلك في سنـة 642هـ كان حصار ((الخوارزمية)) على ((دمشق)) في خدمة صاحب ((مصر)) واشتـد القحط حتى التقى بهم ((الشاميـون)) ومعهم عسكر من ((الفرنج)) بين ((عسقلان)) ((وغزة)) فانهزم الجمعان وحصدت ((الخوارزمية)) ((الفرنج)) واندك صاحب ((حمص)) ونهبت خزائنه وبكى وقال – معبرا عن سر الهزيمة – ((قد علمت بأنا لا نفلح لما سرنا تحت ((الصلبان))([])
قال ابن الأثيـر واصفا أحوال المسلمين في هذه الفتـرة بشكل عـام: ((فمن سلم من المسلمين من هاتين الطائفتيـن (التتـرـ والفرنج) فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق))([]).
إذا علم ذلك كله أمكن تصـور سرعة انتشارهم وضعف المقاومـة أمامهم، وملء الرعب في قلوب الناس من حولهم، والله غالـب على أمره.
3- أسباب سياسية وظروف اقتصادية:
وخلاصة هذا السبب اجتهـاد خاطئ وقع فيه خوارزم شاه في سياسته مع هؤلاء التتـر، ولا سيمـا في حادثة قتل التجار وأخذ ما معهم من الأمـوال – كما سبق البيـان-.
وأضيف هنا ما ذكره ابن الأثيـر كذلك في هذا الصـدد، وخلاصته التضييق الإقتصادي على جند التتـر ومنعهم الميـرة والكسـوات وغيرها مما كان يصل إليهم من قبـل؛ وذلك أن خوارزم شاه بعد أن ملك ما وراء النهر وخلصها من ملوك ((الخطا)) سد الطريق عن بلاد تركستـان وما بعدها من البـلاد، وأن طائفة من التتـر كانوا قد خرجوا قديما والبـلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد منهم وقتلهم، واستولى هؤلاء التتـر على تركستـان: كإشغار وبلاساغـون وغيرها وصاروا يحاربون عساكـر خوارزم شاه، فلذلك منع الميـرة عنهم من الكسوات وغيرها([]).
وليس بغريب أن يدعوهم هذا التضييق إلى التحرش بمن ضيق عليهم والإنتقام لأنفسهم، وتأمين أسباب العيش لهم ولجندهم فكان ما كان والله المستعان.
وبعد، فيصح القول بأن الظلم مرتعه وخيم، وأن الله يعاقب عليه بخراب البـلاد وفناء الأمم الظالمة إن عاجلا أو آجلا، ولا يسلم من ذلك المسلمون.
والعدل به قامت السماوات والأرض، وقد يُمكّن الله لأصحابه وإن كانوا كافرين، وقد نقل شيخ الإسـلام ابن تيمية رحمه الله: ((إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة))([]).
كمـا نقـل: ((الدنيا تدوم مع العـدل والكفـر، ولا تدوم مع الظلـم الإسـلام))(
واستشهـد بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((ليس ذنب أسرع عقوبة من البغـي وقطيعة الرحـم))([]). ثم قال: ((فالباغـي يصرع في الدنيا وإن كان مغفـورا له مرحوما في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعـدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة)) .
وليس بمستبعد أن يكون قتل التجار المستأمنيـن – وإن كانوا غير مسلمين – على أيدي المسلمين سببا في تسلط هؤلاء التتـر على المسلمين وخراب بلادهم وسقوط الخلافـة العباسية على أيديهم.
4- مواقف الملأ وخيانات أصحاب الملل والنحل والأهواء:
وتلك قاصمة الظهر، والحدث الذي يحتاج إلى جـلاء، والأدوار الخفية التي تحتاج إلى بيان، وهو السؤال المهم في هذا البحث: كيف دخل التتـر بلاد المسلمين؟
ولا أدري أيقصد ابن الأثيـر الإشارة إلى شيء من ذلك أم لا حينما قال: ((وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر)) وامتنع عن كشفه وهو يقول:
فكـان ما كـان مما لست أذكـره فظـن خيرا ولا تسأل عن الخبـر([])
وأيا كان الأمر فسنتتبع هذا الأمر، ونجيب على هذه التساؤلات من خلال بيان المواقف التالية:
أ- الخليفة العباسـي (الناصر):
هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، ولي الخلافة سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة وله ثلاث وعشرون سنة، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ولم يل الخلافة – من بني العباس – أطول مدة منه([]) فكانت خلافته سبعا وأربعين سنة([]).
أما عن تشيعه فقد قال ابن واصل: كان الناصر لدين الله يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية، وهو خلاف ما كان عليه آباؤه من القادر إلى المستضيء؛ فإنهم كانوا يذهبون مذهب السلف، وللقادر عقيدة مشهورة في ذلك([]).
وسئل ((ابن الجوزي)) و((الناصر)) يسمع: ((من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أفضلهم من كانت بنته تحته))([]) وبهذه الإجابة الجيدة قطع ابن الجوزي الطريق على السائل الذي كان يريد منه إجابة تخالف رأي الخليفة الناصر، لأن الإجابة تنطبق على أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما.
ومن المؤشرات على تشيع ((الناصـر)) كذلك أن الشيعة يعتبرونه من أعلام المائـة السابعة للشيعة([])، ويرون أن ((الشيعة)) في عهـده أخذت بالظهور والإنتشار في بغـداد من جديد بعد الإضطهادات التي لاقـوها بعد زوال آل بويـه !!([]) .
ويقول ((ابن الطقطقي)): كان من أفاضل الخلفاء، يفاوض العلماء، وكان يرى رأي الإمامية([]).
وحين كتب إليه ابن صلاح الدين (نور الدين علي) – ويقال إنه كان يتظاهر بالتشيع - شكاية عن أخيه العزيز وعمه العادل قال فيها:
مـــولاي إن أبا بكــر وصـاحبه عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
ذي ســـــنة بين الأنام قديمــة أبدا أبو بكــر يجـور على علي
أجابه الناصر:
غصبـوا علياَ حقه إذ لم يكـن بعـد النبـي له بيثرب ناصــر
فابشـر فإن غدا عليه حسابهم واصبـر فناصرك الإمام الناصر([])
قال ابن كثيـر: وكان الناصـر شيعيا مثله([])، كمـا ذكر الصفـدي أن التشيـع ظهـر في خلافـة الناصـر بسبب ابن الصاحب ثم انطفـى بهلاكه وظهـر التسنن المفـرط، ثم زال وظهر الفتـوة والبنـدق والحمـام الهادي
وتفنن الناس في ذلك([]).
كمـا نقل أيضا أن رسول صاحب ((مازندران)) لما دخل بغداد في عهد الناصر كان يأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، وصار يبالغ في الكتم والورقة تأتيه، فاختلى ليلة بإمرأة دخلت إليه من باب السـر فصبحته الورقة بذلك وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحيـر وخرج من بغـداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في الحامل وما وراء الجدار([]).
أما عن موقفه مع ((التتـر)) فيقول ابن الأثيـر: ((وإن كان([]) ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتـر في البلاد، وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبـرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم([]).
وفي مرآة الزمان قال سبط الجـوزي: قال لي المعظم بن العـادل: كتب إلى جلال الديـن ]بن خوارزم شـاه[ يقول: تجيء أنت واتفـق معي حتى نقصد الخليفة ]الناصـر[ فإنه كان السبب في هلاك أبـي ]خوارزم شاه[، وفي مجيء التتـار وجدنا كتبـه إلى الخطـا وتواقيعه لهم بالبـلاد
والخلع والخيل، فلم يوافقه المعظم على ذلك([]).
وبالجملة فقد حمّل عدد من المؤرخين القـدامى والمحدثين الخليفة العباسي الناصـر مسؤلية اختراق المغول لبلاد المسلمين حينما حرضهم على غـزو الأراضـي الخوارزمية، ورأي فيهم القوة القادرة على رد السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد – خصمه – إلى صوابه.
فمن القدامى أمثال: ابن الفرات وأبي الفداء، والمقريزي.
ومن المحدثين أمثال: حافظ حمدي.
ومن الأوربيين أمثال: دوسون، وهورث، وبروان، وكيرتن، وميور، وجرينا، وهارولد لام.
وفي مقابل ذلك كله يرفض الدكتـور القـزاز ما نسب إلى الخليفـة الناصـر، لكنه يوجهه بتقصير الخليفة وعدم تقديـره لمسؤليته كخليفـة للمسلمين([]).
ب- موقـف الملك الرحيـم:
البـدر لؤلؤ صاحب الموصل([]) والملقب بالملك الرحيـم، ملك الموصل نحوا من خمسين سنـة، وهو الذي أزال الدولة الأتابكيـة عن الموصل – وهم أسيـاده – وكان فيه نزعة تشيـع إذ كان يبعث في كل سنـة إلى ((مشهد علي)) قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، قال ابن كثيـر: وهذا دليل على قلة عقله وتشيعه([]).
أما أصله فكان أرمنيا حتى نقل عنه الذهبي أنه كان يحتفل لعيد الشعانين لبقايا فيه من شعار أهله، وكان يمد سماطا عظيما للغاية ويحضر المغاني وتدار في غضون ذلك أواني الخمـور، ويتخاطف الناس ما ينثره من الذهب في ذلك اليوم، فمقت لإحيـاء شعار النصارى وقيل فيه:
يعظم أعيـاد النصـارى محبة ويزعم أن الله عيسى ابن مريـم
إذا نبهـته نخـوة أرْيحــيّة إلى المجـد قالت أرمنيته: نم([])
أما عن مساهمته في دخول التتـر بلاد المسلمين، فقـد ذكـر الحافـظ
ابن كثير أن جنـود التتـر حين نازلت بغداد سنـة ست وخمسين وستمائة جاءت إليهم أمـداد صاحب الموصـل – يساعدونهم على البغـاددة – وميرته وهدايـاه وتحفه؛ وكل ذلك خوفا على نفسه من التتـار ومصانعة لهم([]).
وقال الذهبي عنه: وكان يصانع التتـار وملوك الإسـلام([]).
بل نقل بعض المؤرخين أن ((صاحب الموصل)) كان من بين المحرضيـن لهولاكو على قتل الخليفة العباسـي.([]) وحين انفصل هولاكو خان عن بغداد – بعد الوقعة الفظيعة العظيمة – سار الملك الرحيم إلى خدمته طاعة له ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمـه ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيـرة، ثم مات([]).
ونقل الذهبـي أنه قلد هولاكـو جوهـرة يتيمة قدمها هديـة له وطلب أن يضعها في أذن هولاكـو فأتكـأ ففـرك أذنه وأدخـل الحلقة في أذنـه،
وأن الملك الرحيم عاد إلى بلاده (الموصـل) متوليا من قبل هولاكو، وقرر عليه مالاً يحمله([]).
بل زاد مستوى العلاقة بين الملك الرحيم وأسرته وبين التتـر حتى بلغ المصاهرة فقد تزوج ولده الملك الصالح إسماعيل ابنة هولاكوا، لكن ذلك لم يدم طويلا إذ أغضب الصالح إسماعيل ابنة هولاكو وأغارها، فنازلت التتـر الموصل واستمر الحصار عشرة أشهر ثم أخذت، وخرج إليهم الصالح بالأمان فغدروا به واستباحوا الموصل([]).
وتلك عاقبة المواطأة مع الكفار، ونتيجة معجلة لممالأة الفجار، ممن لا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
جـ- الوزيـر ابن العلقمـي:
هو أبو طالب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن علي بن أبي طالب ابن العلقمي البغدادي الرافضي([]).
خفف من رافضيتـه ((الصفـدي)) حيـن قال: أظهـر الرفـض قليـلا. وبالغ في تسنن خصمه الدوادار حيـن قـال: إنه كان يتغالـى في
السنة ([]) فخالف في ذلك غيره – كما سيتضح.
قال السبكـي: كان شيعيا رافضيا في قلبه غل على الإسلام وأهله([]).
تولى الوزارة للخليفة العباسـي ((المستعصم)) مدة أربع عشرة سنة أفشى خلافها الرفض فعارضتـه السنة فكبت فتنمّـر
وكان – كمـا قال ابن ثيـر – رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسـلام وأهله([]).
وقال في موضع آخر: ((كان شيعيا جلدا ورافضيا خبيثا))([]).
مولده في شهر ربيـع الأول سنـة إحدى وتسعيـن وخمس مائة، وهلك في أوائل سنة سبع وخمسين وست مائة([]).
موقف ابن العلقمـي وخطواته:
أما عن موقفه مع التتـر فهو موقف الخزي والعار؛ إذ سعى في دمار الإسلام وخراب بغـداد كما قال الصفـدي([]).
ومالأ على الإسـلام وأهله الكفـار حتى فعل مـا فعل بالإسـلام وأهلـه([]). وهو الذي حفـر للأمة قليـبا فأُوقِـع فيه قريبا – كمـا قال الذهبـي -([]) .
المكاتبـة:
لقد كاتب ((هولاكو)) وجسّـره وقوى عزمه على قصد العـراق ليتخـذ عنده يـداً وليتمكـن من أغراضـه(3).
بل لقـد جر هولاكو وقرر معه أمورا انعكسـت عليه([]).
واستخدم في هذه المكاتبات شتـى الحيـل وبلغ نهاية المكـر، قد حكي أنه لمـا كان يكاتب التتـار تحيّـل مرة إلى أن أخذ رجلا وحلق رأسـه حلقـا بليغـا وكتب ما أراد عليه بوخز الأبر كمـا يفعل بالوشـم، ونفـض
عليه الكحـل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب فجهزه وقال: إذا وصلت التتـر مرهم بحلق رأسك ودعهم يقـرأون ما فيه، وكان في آخـر الكلام: قطِّعوا الورقـة، فضربت رقبته، وهذا غايـة في المكر والخـزي – كمـا قال الصفـدي([]) -.
الخطـوات السابقـة:
ولم تكن سياسة المكاتبـة مع التتـر هي الأولـى في هذا السياق، بل سبقتها خطـوات مهَّـدت لها وكانت بمثابـة الأرضيـة والمقـدمة لما بعدها؛ فقـد اتخذ ابن العلقمـي سياسة خبيثة – في إضعـاف جيش الخلافـة ساهمت في دخـول التتـر بغـداد دون مقاومـة تذكـر، إذ اجتهد قبتل مجيء التتـر في صرف الجيـوش وإسقاط اسمهم من الديـوان وصرفهم عن إقطاعاتهم، ونجح في ذلك إذ كانت العساكـر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف – منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسـر – فلم يزل ابن العلقمـي مجتهدا في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشـرة آلاف في أواخـر أيام المستعصم([]).
ويقـول الذهبـي: ((استوزر ((المستعصم)) ابن العلقمـي الرافضـي فأهلك الحرث والنسـل، وحسّـن له جمـع الأمـوال، وأن يقتصـر علـى
بعض العساكـر، فقطع أكثـرهم))([]).
وبلغت حالة الجيش وعساكر الخلافـة بالذات مبلغا من الـذل والهـوان، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجـد، وحق للشعراء أن ينشـدوا فيهم الشعـر ويرثوهـم بالقصائد، وينعـوا على الإسلام وأهلـه([]).
وكـان ذلك بسبب سياسة هذا الرافضي المغرض الذي عبـر عن سياسته وأثـر وزارته على المستعصم ابن كثيـر حين قال: ((إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة))([]).
وقال في موصع آخر: ((إنه كان وزيـر سـوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين))([]).
فلما تحقق لابن العلقمـي ما أراد، كاتب التتـار وأطمعهم في أخذ البـلاد وسهل عليهم ذلك، وحكـى لهم حقيقة الحـال، وكشـف لهم ضعـف الرجـال([]).
وهكـذا تبـدو سياسة ابن العلقمـي بعيـدة الغـور سيئة القصد، ولا يحيق المكـر السيء إلا بأهله – كمـا سيتضح بعد.
الخطوة الثالثة: الغدر بالقضاة والفقهاء وقتل الخليفة:
ولم تقف سياسة ابن العلقمي عند هذا الحد، فقد بادر بإتخـاذ الخطـوة العملية حين قدم التتـار، وكان أول من بـرز إليهم فخـرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بهولاكو ثم عاد فأشـار على الخليفة بالخروج إليه والمثـول بين يديه لتقـع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤساء الأمراء والدولة والأعيـان، فلما اقتربوا من منزل هولاكو حُجِبو عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا خلص بهم الخليفة، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، ويقال إنه اضطرب في كلامه من هول ما رأى من الإهانات والجبروت، ثم أعيد إلى بغـداد تحت الحوطة والمصادرة يحيط به الطوسـي وابن العلقمـي الرافضيان، ونهب من دار الخلافـة أشياء كثيرة من الذهـب والحلي والأشياء النفيسـة، ثم أشـار هؤلاء الرافضة على هولاكـو بعدم مصالحة الخليفة وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمـر إلى ما كـان قبل ذلك، وحسنـوا له قتله،
ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمـي، ونصير الدين الطوسـي، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله([]).
ويقال إن الخليفة قتـل رفسا وهو في جوالق لئـلا يقع على الأرض شيء من دمه فيؤخـذ بثـأره وقيل بل خنق، ويقال إنه أغـرق. والله أعلم([]).
أسباب المؤامـرة:
ويبقـى بعد ذلك السـؤال المهم: لماذا فعل ابن العلقمـي ما فعل وأحـل بدار الخلافة ما حـل ؟
وإجابة السؤال تتضح من خـلال منظوريـن، عام، وخاص، وإليك البيـان:
المنظور العـام:
أما العام فخلاصتـه خبث طوية الروافـض بشكل عـام على أهل السنـة وتظرف معتقدهم فيهم، وعدم تحرجهم من التعـاون مع الكفـار على إبـادة المسلمين السنـة، ويكشـف لنا هذه الحقيقـة بجـلاء شيخ الإسـلام ابن تيمية في أكثر من كتـاب، وفي أكثر من موضـع في الكتـاب
الواحد. وينقـل من معتقداتـهم أنهم يكفـرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضيّ عنهم كمـا رضي الله عنهم ... ويستحلون دمـاء من خـرج عنهم، ويسمـون مذهبهم مذهب الجمهور ... ويـرون في أهل الشـام ومصر والحجـاز والمغـرب واليمن والعراق والجزيـرة وسائـر بـلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم ... ويرون أن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى لأن أولئك عندهم كفـار أصليون وهؤلاء مرتدون ...
ولهذا السبب – كما قال ابن تيميـة – يعاونـون الكفـار على الجمهور من المسلمين؛ فيعاونون التتـار على الجمهـور، وهم كانـوا من أعظم الأسباب في خروج جنكز خان ملك الكفـار إلى بلاد الإسـلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحيـة وغير ذلك بخبثهم ومكرهم لمـا دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من تـوزر منهم([]).
وقال أيضا: ((وهؤلاء – يعني الرافضة – من أعظم من أعان التتـار على المسلمين باليـد واللسـان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك؛ لمباينـة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى، ولهذا كان ملك الكفـار هولاكو يقـرر أصنامهم))([]).
ونقـل أيضا أن الرافضة – بشكل عام – من أهل الجبـل، والجرد، والكسروان، وأهل جزين وما حواليها وسائـر أهل هذا المذهـب فرحوا بمقدم التتـار إلى بـلاد المسلمين([]) ...
ويربـط ابن تيميـة بين موقـف الرافضـة بشكل عام من أهـل السنـة وموقف ابن العلقمـي وأمثاله بشكل خاص ويكشف عن عوامـل ذلك فيقـول:
((والرافضـة تحب التتـار ودولتهم لأنه يحصـل لهم بها من العـز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضـة هم معاونـون للمشركين واليهـود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانـوا من أعظم الأسباب في دخـول التتـار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسـان والعراق والشام، وكانوا أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبـلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمـي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس... وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركيـن كان ذلك غصة عند الرافضـة، وإذا غلب المشركـون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسـرة عند الرافضـة.([])
وفي ((منهاج السنة)) قال شيـخ الإسلام ابن تيميـة يرحمه الله ((وكثيـر منهم – يعني الروافـض – يواد الكفـار من وسط قلبه أكثـر من موادته للمسلمين، ولهـذا لمـا خرج التـرك الكفـار من جهة المشـرق وقتلوا المسلمين وسفكـوا دماءهم ببـلاد خراسـان والعـراق والشـام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانـوا بالشـام وحلب وغيرهما من الروافـض كانـوا أشد الناس معاونـة لهم على قتـال المسلمين ... إلى أن يقول: فهم دائمـا يوالـون الكفـار من المشركيـن واليهود والنصـارى ويعاونونهم على قتـال المسلمين ومعاداتهم))([]).
السبب الخـاص:
فإذا اتضح المنظـور العام أمكن فهم السبب الخـاص في موقف ابن العلقمـي مع التتـر في إطاره ولم يفصـل عنه، وقد ذكـر المؤرخون أن الذي حمل ابن العلقمـي على موقفه من التتـر أن أبا بكر بن الخليفة المستعصهم والدويدار الصغير قد شـدا على أيـدي السنة حتـى نهب الكـرخ وتمّ على الشيعـة بـلاء عظيم، فحنق لذلك ابن العلقمـي وأراد الثـأر بسيف التتـار من السنة([]). وكاتـب هولاكو، وطمّعـه في العـراق،
فجاءت رسل هولاكو إلى بغـداد، وفي الباطـن معهم فرمانات لغيـر واحد والخليفة لا يـدري ما يتم([]).
ونقـل الذهبـي – في إطـار العلاقـات السريّـة المشبوهة أنه قدم إلى بغـداد رسـولان من التتـر واجتمعا بابن العلقمـي وتعمّت الأخبـار([]).
وقال الصفـدي: فحصل عنـده – بسبب ذلك – من الضغن ما أوجب له أنه سعـى في دمـار الإسلام وخراب بغـداد على مـا هو مشهـور أنه ضعف جانبه وقويـت شوكـة الدوادار بحاشيـة الخليفة حتى قال في شعره:
وزير رضـي من بأسـه وانتقـامه بطي رقاع حشـوها النظم والنثر
كمـا تسجع الورقاء وهي حمامـة وليس لها نهي يطاع ولا أمـر([])
وقال ابن كثيـر: ((ولمـا كـان في السنة الماضيـة ]يعني سنة خمس وخمسين وستمائة[ كـان بين أهـل السنة والرافضـة حـرب عظيمة نهبت فيها الكـرخ ومحلة الرافضـة حتـى نهبت دور قرابـات الوزيـر (ابن العلقمـي) فاشتـد حنقه على ذلك فكـان هذا ممـا أهاجه على أن دبّـر على
الإسلام وأهله ما وقع من الأمـر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغـداد وإلى هذه الأوقـات))([]).
وربمـا اجتمع إلى هذه وتلك الوعـود الطيبة التي بذلها ((المغـول)) وأغرت ((ابن العلقمـي))، والوفـاق والتعاون مع نظيـره في المعتقد والتعصب ((الطوسـي)) والذي أصبح وزيرا لهولاكو([]).
المكـر السيء يحيق بأهله:
ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ودخل التتـار وجندهم بغداد ووقع ما وقع من الظلم والفسـاد وسفك الدمـاء وهتك الأعـراض، ولم يكن ابن العلقمـي بعيدا عن ذلك كله ولا سالما منه ألبتة، وقد أحسن الظـن الذهبـي في تعبيره وكان دقيقا في وصف حالته حين قال: ((وحفـر للأمة قليبا فأُوقِـع فيه قريبا، وذاق الهـوان، وبقي يركب كديشا وحده بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب السلطان؛ فمات غبنا وغما، وفي الآخـرة أشد خزيـا وأشد تنكيـل([]).
ونقـل ((الصفـدي)) ندم ((ابن العلقمـي)) حيث لا ينفعه النـدم – وكان كثيـرا ما يقول: وجرى القضـاء بعكس ما أمّلته – لأنه عومـل
بأنواع الهـوان من أراذل التتـار والمرتدة؛ حكـي أنه كـان في الديوان جالسا فدخل بعض التتـار ممن لا وجاهة له راكبا فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهـوان يظهر قـوة النفس وأنه بلغ مراده .
ولم تكن الشيعة بشكل عام – وهم أهل وعشيرته – بمنأى عن هذه الجرائم والمآثـم، وعجيب أن يكون حنقه على أهـل السنة، وحميته للشيعة تبيح له ذلك كله. ويروى أن بعض أهل بغـداد قال له: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه وحميت الشيعة حميّة لهم، وقد قتل من الأشراف الفاطميين خلق لا يحصـون، وارتكب من الفواحش مع نسائهم وفضّـت أبكارهم مما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال: بعـد أن قتل الدوادار ومن كـان على مثل رأيه لا مبـالاة بذلك .
ويقـول ابن الوردي: ((أراد ((ابن العلقمـي)) نصـرة الشيعـة فنصـر عليهم، وحـاول الدفـع عنهم فـدفع إليهم، وسعـى ولكـن في فسادهم، وعاضـد ولكن على سبـي حـريمهم وأولادهم، وجـاء بجيـوش سلبـت عنهم النعمـة ونكبـت الإمـام والأمـة، وسفـكـت
دمـاء الشيعة والسنة) .
وأخيـرا ذهب ابن العلقمـي ضحية ما اقترفته يـداه، ومـات بعد دخول التتـر بغـداد بثلاثة أشهـر غما وغبنا. ويقال إن امـرأة رأته وهو في الذل والهـوان وهو راكب في أيام التتـر برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضـرب فرسه فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا ابن العلقمـي، هكـذا كان بنو العبـاس يعاملونك ؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مـات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة.
وبلغ إذلال ((التتـر)) له أن جعلوه تابعا لشخص يدعـى ((ابن عمران)) كـان خادما في دولة المستعصـم بل نقـل ((النويـري)) ما هو أشـد من ذلك، إذ استدعـاه ((هولاكو)) فلما مثـل بين يديه سبّـه ووبخه على عـدم موافاته لمـن هو غذي نعمته، وأمـر بقتله فقتـل، وقيل لم يقتله وذكر ((السيـوطي)) أنه صار معهم في صـورة بعض الغلمـان، وأنه مـات كمـدا .
إنكار الحقائق خلل في المنهج:
وعلى الرغم من وضوح الحقيقة، وتضافر المصادر على ذكر هذا الموقف المخزي لابن العلقمـي، فثمة آراء غريبة لبعض الشيعة المعاصرين تحـاول توهين الحقيقة، وتظـن بذلك أنها تدفع عن الشيعة عـار هذا الموقـف وخزيه، ولكـن الحقيقة فوق هذا التوهـين ، وهي من الثبـوت في مصادر الشنة والشيعة أيضا بحيث لا تقبـل النقض والإبـرام، وإليك نموذجـا لهؤلاء:
يقول الدكتـور القفـاري: ((ومن الغريب أنه نبتت نابتة في هـذا العصـر من الروافـض وحاول توهين القصـة، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جـاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيـل ت665هـ كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصـرة زمانية لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصرة المكانية).
يقـول الدكتـور القفـاري: ((ثم بحثت في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبـار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفـات:
1_ أن الشيعة يعتبـرونه من رجالهم.
2- أنه من بغـداد.
3- أنه متوفـى سنة 674هـ؛ فهو شيعـي بغـدادي معاصر للحادثة ذلك هو الإمام الفقيه علي بن أنجـب المعروف بابن الساعي الذي قـال: (... وفي أيامه – يعني المستعصم – استولت التتـار على بغـداد وقتلوا الخليفة وبه انقضت الدولة العباسيـة من أرض العـراق، وسببه أن وزيـر الخليفة مؤيـد الدين ابن العلقمـي كان رافضيـا ...) ))
على أن إنكـار الحقائق ليس سمـة الشيعة المعاصـرين فحسب بـل سبقهم إلى ذلك شيعة آخـرون؛ فهـذا ((ابن العلقمـي)) العلـوي ألف كتابه ((الفخـري في الآداب السلطانية)) سنة 701هـ في الموصل، ودافـع بحمـاس عن موقف ابن العلقمـي، بل غالى في الثنـاء على دولة المغـول بشكل مثيـر أبعـده عن الإنصاف كمـا يقول الزركلـي .
وممـا قاله في سبيـل الدفـاع عن موقف ابن العلقمـي: ((ونسبه الناس إلى أنه خامـر، وليس ذلك بصحيـح، ومن أقـوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة؛ فإن السلطـان هولاكو لمـا فتح بغـداد وقتل الخليفة سلم البلـد إلى الوزيـر وأحسـن إليه وحكـَّمه، فلو كان قـد خامـر على الخليفة لمـا وقع الوثـوق إليه)) .
ويظهـر للمتأمـل أن هذا الدليل من علائـم التهمة والمواطـأة لا من دلائل البـراءة والنـزاهة، ولكن ((ابن الطقطقـي)) لا يقف عند هـذا الحـد، بل يسـوق روايـة تفيد أنه ظـل وفيّاَ للمستعصم إلى آخـر لحظة، وأنه لم يلبِّ دعـوة هولاكوا إلا تحت ضغط الخليفة!([]).
وقد سبـق بيان مـا يكشف تهافت هذه الآراء والمرويات، ومع ذلك فقـد تصـدى الدكتـور الصياد للرد على ابن الطقطقـي وممأ قاله: ((إذا كان صاحب ((الفخـري)) قد دافع بحـرار عن موقف ابن العلقمـي وسقـى جاهدا لدفع تهمة الحيـانة عنه، فمـا ذلك إلا لأنه شيعي مستنيـر حس بفداحـة الجـرم الذي أقدم عليه صاحبه إذ كان بتصرفه هذا عاملا هاما في ضياع دولة وذهاب شخصية لها مقـام ديني كبير في نفـوس المسلمين، خصوصا وأن هذا التحـول الخطير قد تم على أيدي قوم من الكفـرة، ثم أن النكبة لم تكـن مقصورة على أهل السنة وحدهم بل كانت عامة شاملة قاسـى منها أهل السنة وأهل الشيعة .
ويبقـى بعد ذلك ردّ الشيعة بعضهم على بعض وتضـارب آرائهم دليـلا لا يستطيع الشيعة رفضـه بحجة أنه من خصومهم أهل السنة؛ فهـذا ((الششتـري)) ت1019هـ القاضـي – وهو مؤرخ شيعي كبير – يعترف صراحة بدور الرافضـة في سقوط بغـداد ويقول: ((إن ابن العلقمـي كاتب هولاكو، والخواجـة نصير الدين الطوسـي وحرضهما على تسخير بغـداد للإنتقام من العباسيين بسبب جفائهم لعتـرة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وآله)) .
وبمثـل ذلك يمكن إسقاط محـاولات الدفاع والتبرير الساذج عند ((أغابزرك الطهرانـي)) الذي قال: ((... ولو لم يكـن دهـاء ابن العلقمـي لمـا اختلف مصير بغـداد عن مصير ((تيسفـون)) التي انقطع عنا جل أخبارها))).
وبهـدا يتبين تهافت هذا الإنكـار، وتضافر كتب الشيعـة مع كتب السنـة على إثبـات دور ابن العلقمـي في سقـوط بغـداد ودخول التتـار. هذا فضـلا عن ثبوته في المصادر الأوربية([]).
د- النصيـر الطوسـي:
هو محمد بين محمد بن الحسن نصير الدين الطوسـي، أبو عبد الله، أو أبو جعفـر، أحد الفلاسفة والمنجمين، ولد بطوس – قرب نيسابـور – سنة سبع وتسعين وخمس مائة، ووفاته ببغـداد سنة اثنين وسبعين وست مائة([]). كان له اهتمام بالعلوم العقلية، وكان رأسا في علوم الأوائـل، وله اهتمام بالفلسفة، وقد عدد الزركلي طائفة غير قليلة من كتبه([]).
أما عقيدته، فكـان فاسد المعتقد، حكم عليه بعض العلمـاء بالإلحاد ونسبوا إليه عبـادة الأصنـام، ورام تغيير القـرآن والصلاة فلم يقدر عليه؛ يقول ابن القيـم: ((نصـر في كتبه قدم العالم، وبطلان المعـاد، وإنكـار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخـل العالم ولا خارجه وليس فـوق العرش إله يعبـد ألبتة! واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمـام الملحدين ابن سينا مكـان القـرآن فلم يقـدر على ذلك فقال: هي قـرآن الخواص، وذاك قـرآن العوام، ورام تغيير الصـلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر، وتعلم السحـر في آخر الأمـر فكـان ساحرا يعبـد الأصنـام)) .
وقف ابن القيـم على كتاب له سماه ((مصارعة المصارعة)) عارض فيه الشهرستاني في كتاب ((المصارعة)) الذي رد فيه على ابن سينا في القول بقدم العالم وإنكـار المعـاد، ونفي علم الرب وقدرته، وخلقه للعالم. يقول ابن القيـم: ((وقفت على الكتابين فوجدت الطوسـي قد نصر أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعـل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبـور)) .
ثم يختم ابن القيـم القـول في معتقـده ويقـول: ((وبالجملة فكـان هذا الملحـد هو وأتباعه من الملحدين الكفارين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر))
ولعـل هذا يفسـر لنا علاقتـه ((بالإسماعيليـة)) وتأليفه كتـاب ((أخلاق ناصـري)) لمحتشم الإسماعيليـة ناصـر الدين أبو الفتح عبد الرحيم ت655هـ .
بـل تحدثنا كتب التاريـخ أن الطوسـي كـان يقيم مع الإسماعيلية في قلعـة ((ميمـون دز)) . أما القول بأن إقامته – ومـن كان معه – مجبرين، وأنهم سئموا الإقامة عند الإسماعيليةفذلك يحتـاج إلى دليل يعضده. وإلا فكيـف نفهم أن الإسماعيلةي لفرط ثقتهم فهي وتقدمه عندهم كـان هو مبعوثهم إلى هولاكو حينما هدد زعيمهم ((خورشـاه)) الذي استشار أركان دولته فاستقر رأيهم على أن يرشل إلى هولاكو الخواجة نصيـر الدين الطوسـي مع طائفة من الوزراء والأعيـان والأئمة ومعهم الهـدايا والتحف، فوصلوا إليه في شـوال سنة 654هـ. .
وكان الطوسـي كذلك على صلة ((بالنصيريـة)) وقد ألف كتـابا وضعه لهم، وليس بمقنع مقولـة الصفـدي – وهو ينقل هذا الخبر – ((وأنا أعتقد أنه ما يعتقده؛ لأن هذا فيلسوف وأولئك يعتقدون إلهية علي))( . فعقيـدة الطوسـي – السالفة- تخوله لمثل هذا وأزيـد.
ويبـدو أن الطوسـي يجيد التلوّن ولديه القدرة على العيش في أي بيئة، بدليل أنه أظهر الصدق والإخلاص عند مقابلته لهولاكو، الأمـر الذي جعل له عند هولاكو منـزلة عاليـة، فكـان يقربـه ويستـشيـره ويطيعـه.
وهو وإن وزر ((للإسماعيلية)) فقد كـان مرافقـا لـ((هولاكو)) حين افتتح قلاعهم ((الألمـوت))) ، وانتقـل من الوزارة عند ((الإسماعيليـة)) إلى الوزارة عند ((هولاكـو التتـري)) إذ انتخبه ليكون في خدمتـه كالوزيـر المشيـر.
والطوسـي هو مبعوث ((هولاكو)) إلى الحلّة .
وحين عـاد هولاكو إلى بغـداد كان الطوسـي مع ابن العلقمـي في صحبته، ويقال إنهم هم الذين حسَّـنوا له قتل الخليفة العباسـي وعدم المصالحة معه.
ويحـدد ((ابن القيـم)) دور ((الطوسـي)) مع التتـر في محنة بغـداد ويقول – إثر حديث عن الرافضة عموما-: ((ولمـا انتهت النوبة إلى نصيـر الشـرك والكفـر الملحـد وزير الملاحـدة، النصير الطوسـي وزير هولاكو، شفـا نفسه من أتباع الرسـول وأهل دينه فعرضهم على السيـف حتى شفـى إخوانه من الملاحـدة واشتفـى هو؛ فقتـل الخليفة والقضـاة
والفقهـاء والمحدثيـن، واستبقـى الفلاسفة والمنجميـن والطبائعيين والسحـرة ونقل أوقاف المدارس والمساجـد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأوليـاءه)).
هـ - مواقـف وأدوار أخـرى:
لم يكـن دور ((الرافضـة)) ينتهي عنـد حدّ هؤلاء، فثمـة شخصيـات ومواقـف أخرى نذكـر منها:
*موقـف الشيخ الرافضـي ((الفخـر محمد بن يوسف بن محمد الكنجـي)) الذي كان يصانع ((التتـر)) على أمـوال الناس، وكـان – كمـا قال ابن كثير – خبيث الطويـة مشرقيـا ممالئا لهم على أموال المسلمين، فقتلته ((العامـة)) وسـط الجامـع إثر انتصار المسلمين في معركة عين جالـوت.
*وموقـف ((محمـد بن الحسن المعـروف بابن طاووس الحلـي)) الذي أهدى كتابه ((البشـارة)) إلى ((هولاكو)) المغولـي، فسلم الحلة والنيـل والمشهدين من القتـل والنهب حين سقـوط بغـداد سنة 656هـ، وردّ إليه ((هولاكو)) النقابـة بالبـلاد الفراتيـة فحكم في ذلك قليلا ثم مات دارجاً.
*و((محمـد بن أبي العـز الحلـي)) الذي نقل الرافضة أنفسهم أنه اشتـرك مع ((سديـد الديـن)) والد العلامـة الحلـي، في كتابة الرسالة إلى هولاكو وطلب الأمان لأهل الحلة(
*ويعتـرف ((الرافضـة)) مرة أخرى أن بلـدة ((كاشـان)) قد نجت من فتنة هولاكو بسبب ((أفضل الدين الكاشانـي)) الذي كان معاصرا للطوسـي ويقال إنه خاله.
وهل تسلم ديـار الرافضة ومشاهدهم من بطـش التتـر لولا المصانعة والمواطـأة والمكاتبـة ؟
ولقـد بلغ الأمـر أن من دخـل دور الرافضة فهو آمن، وكذلك تخلّص ((ابن أبي الحديـد)) صاحب ((شرح نهـج البـلاغة)) من مقتلة المغـول لكونه في دار ابن العلقمـي، ثم حضـر عنـد الخواجـة نصير الدين الطوسـي ففوّض إليه خزائـن الكتب ببغـداد مع غيـره .
*وابن أبي الحديـد هذا وصفه ابن كثيـر بالغلـو في التشيع وذكـر علاقته بابن العلقمـي فقـال: ((كان حظيا عند الوزيـر ابن العلقمـي لمـا بينهما من المناسبة والمقارنة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة)).
ونقـل ((المجلسـي)) أن ابن أبي الحديـد ألف ((شرح نهج البلاغـة)) وأنشأ قصائـد ((السبع العلويـات)) لأجـل ابن العلقمـي وباسمه
* بل كـان منهم من ولي للمغـول كمـا كان ((محمد بن محمد بن محمد الجوينـي)) حاكما لـ((أصفهـان)) في عهد ((أبقاخان المغولـي))
وكذلك يبـدو أثـر التقارب والممالأة واضحا جليا بين الرافضة والتتـر، ولئن لم يستسغ بعض المؤرخيـن من أهل السنة ذكره كله أو بعضه في بطـون الكتب كمـا أشار ابن الأثيـر، فها هم المؤرخون الرافضة لا يرون بأسا من ذكره بل ربمـا اعتبـروه مفخـرة ودهاء كمـا وصف ((الطهرانـي)) دور ابن العلقمـي، وكمـا حاول ((ابن الطقطقـي)) المدافعـة لكن دون جـدوى0
و- دور الإسماعيليـة:
ومع التقـارب بين الرافضة الإسماعيليـة في المعتقد فقد كشـف ابن الأثيـر بجـلاء عن دور مبكـر ((للإسماعيليـة)) بدخول التتـر بلاد المسلمين؛ فقـد أرسل مقـدم الإسماعيليـة الملاحـدة سنة 628هـ إلى التتـر يعرفهم ضعف جـلال الدين بالهزيمـة الكائنـة عليه من علاء الدين
كيقبـاذ ومن الأشرف، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفـر به للوهن الذي صار إليه.
ويعلق ابن الأثيـر على سياسـة جـلال هذا ويقول: ((وكـان سيىء السيـرة، قبيح التدبيـر لملكه، لم يتـرك أحدا من الملوك المجاورين إلا عاداه ونازعه الملك وأسـاء مجاورته
وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين.
لقد أحجم – في البداية – العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي ((ابن الأثير)) (ت 630هـ) عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا" ([]).
ويقول أيضا: " فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"([]).
وهي عنده أعظم من فـتنة الدجال([])، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: " وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده... ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن" ([]).
هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة(656هـ) وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تـزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها – وسيتضح – حين الحديث عنها – حجم مآسيها وضخامة أحداثها.
كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابق الهجري (699هـ) حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه
في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيـد، كما يتفرقـون كذلك في اليوم الموعود، وفـر الرجل فيها من أخيـه وأمـه وأبيـه، وإذ كان لك امـرئ منهم شأن يغنيه. وكـان من الناس من أقصـى همته النجـاة بنفسه؛
لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. و ذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.
كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الإمتحان تمييزا من الله وتقسيما؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24]([]).
كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام([])جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا،؛ هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت
عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
فلذلك استولت الخيرة على من كان متسما بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] .([])
أمـا المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون وكانوا شيعا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كمـا قد استسلم لهم أهـل العراق والدخـول تحت حكمهم
هذه الحادثة لهولها وشدتها وكثرة أحداثها وترابطها لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها – فذلك ميدانه الكتب المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى لدخولهم ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم ((بغداد)) حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية.
ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الإستفادة من كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة – موضع التركيز في هذه الدارسة -.
* * *
أولا:أصل التتر وعقيدتهم:
هذه الأمة ((التترية)) خرجوا من أراضيهم (بادية الصين) وراء بلاد تركستان([])، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا([]).
وأول ملوكهم ((جنكز خان))، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر، ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم .. وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي([]).
أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم ((كشكي خان))، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب([]).
وتحدث عن التتر الآخرة وملكهم ((جنكز خان)) النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم([]).
ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة 606هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رأسهم يدعى ((كشلوخان)) حتى خرج عليه ((جنكز خان)) فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول([]).
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن ((جنكيز خان)) هو أول من وضع لهم ((ياسة)) – أي شريعة- يتمسكون بها([]).
قصد التتر العالم من حولهم ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم،وقد جود الموفق البغدادي وصفهم – كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجـي سكان
براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون([]).
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلابوالخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"([]).
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه.
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتعمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام – وهو جمهور العسكر- ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من
غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى..."([]).
ثانيا:البواعث الأولى:
تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخـلافة العباسية.
1- بين الخوارزميين وملوك الخطا:
وتبدأ أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن محمد بن نوشتكن، وتوفي سنة 568هـ([]).
ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب الخطا بعد حروب عظيمة، ثم توفي سنة 596هـ([]).
كما نقل عنه الذهبي أنه تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان، وهو الذي أزال دولة السلاجقة ([]).
ثم جاء بعده ابنه محمد الذي قصد الخطا سنة أربع وستمائة في جيش عظيم فالتقوا وتمت بينهم مصافات، ثم وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل خلق وأسر السلطان محمد وأمير من أمرائه، ولم يخرج من الأسر إلا بحيلة وعاد إلى خوارزم(
وفي سنـة 606هـ عبر خوارزم شـاه (محمـد) جيحون بجيوشه فالتقـاه طاغيـة الخطا (طاينكـو) فانهـزمت الخطـا وأسر ملكهم وهزموا
هزيمة منكرة، وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى، وعلى أثرها تملك (خوارزم شاه) بلاد ما وراء النهر مدينة مدينة ناحية ناحية([]).
أما ملوك الخطا هؤلاء فهم قوم كفار، وقد طالت أيامهم في بلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها حتى ضاق المسلمون ذرعا بهم وكتب سلطان سمرقند وبخارى- وكان كما ذكر ابن الأثير: عريق النسب في الإسلام والملك- يقول الخوارزم شاه: إن الله عز وجل قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة والسكة. فأجابه محمد بن خوارزم شاه وعبر إليه نهر جيحوني ووقعت المعركة كما سبق([]).
2- بين ملوك الخطا والتتر:
استـفاد التـتر من كسر الخوارزمييـن لملوك الخطـا وتـقووا بكسر خـوارزم شاه لهم، ووقعـت بينهم حروب، وكان رأس التتـر حينها يدعى ((كشلوخـان)) فكتب ملك الخطـا إلى خـوارزم شاه يخوفه بالخطـر
الجديد ويطلب إليه أن يتعاون معه في كسر التتر ويقول: "ما جرى بيننا مغفور؛ فقد أتانا عدو صعب فإن نصر علينا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تـنجدنا". فكتب إليه ((خورزم شاه)) ما يفيد بموافقته، وأنه قادم لنصرته، وكتب لـ((كشلوخان)) التتري رسالة أخرى قال فيها: إنني قادم وأنا معك على الخطا – قال الذهبي: وكان بئس الرأي([]) - فالتقى الجمعان ونزل خوارزم شاه بإزائهما يوهم كلا من الفريقين أنه معه وأنه كمين له، فوقعت الكسرة على الخطا، فمال خوارزم شاه حينئذ معينا لكشلوخان، واستمر القتل بالخطا، وانضم منهم خلق إلى خوارزم شاه، وخضع له كشلوخان وقال: نتقاسم مملكة الخطا، فقال خوارزم شاه بل البلاد لي وسار لحربه، ثم تبين له قوة التتار فأخذ يراوغهم، فبعث إليه كشلوخان يقول: ما هذا فعل ملك؛ ذا فعل اللصوص، فإن كنت ملكاً فاعمل مصافاً بيننا فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أن أفعل أنا بك ذلك، فلم يجبه خوارزم شاه إلى ما طلب([]).
3- بين الخوارزميين والتتار:
خـرج على ملك التتـر الأول ((كشلوخـان)) تتـر آخرون بزعامـة
((جنكز خان)) النهرجي، فانشغل بهم كشلي خان وتحاربوا مدة وظفر ((جنكز خان)) وطغى وتمرد وأباد البلاد والعباد، وأخذ أقاليم الخطا، ودانت له قبائل المغول بعد أن ظفر جنكز خان بابن كشلوخان ولم يكن له معه كبير أمر([]).
أما أول مصاف كان بين خوارزم شاه وجنكز خان فقد كان بقيادة ابن جنكز خان (دوشي خان) سنة 606هـ (هكذا ساقها الذهبي ضمن أحداث هذه السنة وإن لم يصرح به)، وعلى الرغم من انتصار خوارزم شاه في هذه المعركة إلا أنه عاد مهموما قلقا لما رآه من قوة هذا العدو وكثرتهم وشجاعتهم([]).
ولذلك خطر ببال خوارزم شاه أن يكتشف التتار بنفسه فدخل فيهم هو وثلاثة معهم متسترين بزي التتر، فقبض عليهم وقتل اثنان منهم وفر خوارزم وآخر معه في الليل، وذلك سنة 615هـ([]).
أ_ دور الخوارزميين في دخول التتر بلاد المسلمين:
قويت شوكة خوارزم شاه وتملك سنة 611هـ كرمان ومكران والسند وخطب له بهرمز وهلوات، وكان يصيف بسمرقند، وإذا قصد بلدا سبق خبره.
وفي العام الذي يليه توثب خوارزم شاه على ((غزنه)) فتملكها، وهزم صاحب الروم كيكاوس الفرنج وأخذ منهم ((أنطاكية)).
ثم قصد بغداد واستعد له ((الناصر)) ولكن الله صرفه عن بغداد([]).
أما الحادثة المهمة في هذا السياق والتي كانت بداية غزو التتار فهي حين أحس جنكز خان بقوة خوارزم شاه وسعة ملكه، وبعث إليه رسولا يطلب الهدنة معه لإعمار البلاد وإصلاح الإقتصاد ويقول: إنه ما يخفى عليّ عظم سلطانك، وأنت كأعز أولادي، وأنا بيدي ممالك الصين فاعقد بيننا المودة، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد، فأجاب خوارزم شاه إلى الصلح – بعد أن عرف من الرسول سعة ملك جنكز خان – فأعجب ذلك جنكز خان ومشى الحال([]).
لكن هل استمرت الهدنة ؟ وكيف نقضت؟ وما أثر هذا النقض في دخول التتر بلاد المسلمين؟ هذه أسئلة مهمة؛ والإجابة عليها تكشف لك البواعث الأولى لمجيء جحافل المغول ودخول التتر بلاد المسلمين.
ذكـر ابن الأثيـر – وهو من أقرب المصـادر لهذه الفتـرة ([]) – أن جنكز خان سير جماعة من التجار والأتراك ومعه شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر: سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى ((أوترار)) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب([])هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم، وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس إلى جنكز خان لينظر ما هو؟ وكم مقدار ما معه من الترك؟ وما يريد أن يعمل؟
فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم(.
ب- ندم خوارزم شاه ومشورته:
وعلى الرغم من تجلد خوارزم شاه وفعلته فقد ندم على ما صنع، وأصابه همٌّ وغمٌّ وتحفز استشار لأجله من حوله من العلماء والأمراء.
فقد أحضر الشهاب الخيوفـي – وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به – فحضر عنده فقال له: قد حدث أمـر عظيم ولا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله؛ وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية التـرك في كثرة لا تحصى، فقال له: في عساكرك كثـرة وتكاتب الأطراف، وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتـك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب "سيحـون" – وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام – فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيـدة لقيناه ونحـن مستريحون وهـو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
وجمع خـوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أربـاب المشورة فاستشارهم فلم يوافقـوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن تتركهم يعبرون "سيحـون"
إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها؛ فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد([]).
ثالثا:غزو التتـر ومآسيهم في بلاد المسلمين:
وقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبينما السلطان الخوارزمي ومن حوله يتشاورون بشأن التتر إذ ورد رسول جنكز خان ومعه جماعة يتهدد خوارزم شاه ويقول: "تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم، استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به".
فلما سمع خوارزم شاه الرسالة أمر بالرسول فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكز خان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك.
وبالفعل تجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادرا ليكسبهم وسار أربعة أشهر حتى وصل إلى بيوتهم فلم يجد فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية.
وكـان غيبة التتـر الكفار عـن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربـة ملك من ملوك التـرك يقـال له كشلوخـان، فقاتلـوه وهزمـوه – كـما سبـق
البيان – فلقيهم في الطريق خبر خوارزم شاه وما صنع بمخلفيهم، فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم فتصافوا واقتتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، مدته ثلاثة أيام، وأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم، وجرت الدماء غزيرة على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه من كثرته
1- مأساة التتـر في بخارى المسلمة:
عاد المسلمون بعد هذه المنازلة إلى بخارى وطلب إليهم خوارزم شاه التحصن بها وحمايتها ريثما يعد العدة للتتـر من خوارزم وخرسان، ولكن هؤلاء التتـر عاجلوا المسلمين بالتوجه إلى بخارى وحين وصلوها حاصروها واقتتلوا مع حاميتها قتالا شديدا على مدى ثلاثة أيام فر على أثرها العسكر الخوارزمي إلى خراسان حين أحسوا أنه لا طاقة لهم بهؤلاء التتـر. واشتد الأمر على أهل بخارى حين أصبحوا وقد ترك العسكر الخوارزميـون مواقعهم فارين إلى خراسـان، ولم يكن أمام أهل البلد إلا أن يطلبوا الأمان، فأعطوا الأمان بواسطة أحد القضاة (بدر الدين قاضي خان). وعلى إثـر ذلك فتحت أبـواب المدينـة في الرابع من ذي الحجة عام ست عشـرة وستمائة،
فدخل التتـر الكفار بخارى المسلمة وأظهروا لأهلها العدل حسن السيرة، ثم توجه ((جنكز خان)) إلى القلعة التي احتمى بها طائفة من العسكر كانوا نحوا من أربعمائة فارس لم يتمكنوا من الهرب مع أصحابهم، وطلب جنكز خان من أهل البلد الخروج معه لمحاصرة هذه القلعة ومن تخلف قتـل، فكانت تلك بداية الإستخفاف والإستذلال لأهل بخارى، فخرجوا خوفا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعـة ففعلوا وبلغ من سوء التتـر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابـر وريعات القرآن في الخنـدق.
وبعد جهد جهيد وقتال مرير، دخل جنكز خان وأصحابه القلعة وقتلوا من بقي بها من جند المسلمين الذين أصروا على الدفاع عن القلعة بكل ما يملكون وحتى آخر لحظة !
وقل توقفت مأسـاة التتـر ببخـارى عند هذا الحـد ؟ كلا، فحين فرغوا من القلعة طلب جنكز خان أن يُكتب له وجوه القوم ورؤساؤهم، فلما عُرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضـروا، وطلب منهم إحضار ((النقـرة)) التي باعهم إياها خوارزم شـاه وقد أخذت من تجار التتـر – كمـا سبق البيـان – فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يدي ((جنكـز خان)) ثم أمرهم بالخروج من البلـد فخرجوا مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفـار البلـد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاطـوا بالمسلمين فاقتسمـوهم ونسائهـم، وكان يومـا شديـدا على المسلمين حتى قال ابن الأثير: وكان يوما عظيما من كثرة البكـاء من الرجال والنساء والولدان ... وتفـرق المسلمـون قددا وتمزقوا كل ممزق، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ولا يقدرون على فعل شيء، ورضي بعض المسلمين بالموت دون ذلك فقاتلوا حتى قتلوا؛ ومن هؤلاء الفقيه الإمام ((ركن الدين إمام زاده)) وولده، وكذلك فعل القاضي ((صدر الدين خان))، ومن استسلم أخذ أسيرا. ولم يرحل التتـر عن بخارى حتى ألقـوا النار في البلد والمدارس والمساجـد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال - فإنا لله وإنا إليه راجعـون .
2- مأساة التتـر في سمرقنـد:
ولم تقف المأسـاة عند حدود بخارى، بل رحل هؤلاء التتـر الرعـاع إلى سمرقنـد يستصحبون معهم من سلم من أهل بخارى أسارى ويسوقونهم مشاة على أقبح صـورة وكأنهم قطيع من الغنم، فكل من أعيا وعجز عن المشـي قتلوه.
فلمـا قاربوا سمرقنـد قدمـوا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثـقال وراءهم حتى تقدمـوا شيئا فشيئـا ليكـون أرعب لقلـوب المسلمين فلمـا رأى أهل البلد سوادهم استعظمـوه فلما كان اليـوم
الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة. وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتـر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم، وكان الكفار التتـر قد كمنوا لهم كمينا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفا على ما نقل ابن الأثير .
فلما رأى الباقون من الجند والعامة – في سمرقنـد - ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند – وكانوا أتـراكا -: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان فأجيبـوا إلى ذلك ففتحوا أبواب البلـد ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفـار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفـار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعـوا السيـف فيهم وقتلوهم عن آخـرهم،
وأخذوا أموالهم ودوابهـم ونسائهم.
ثم نادوا – في اليوم الرابع – في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا معهم مثل ما فعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد، وأحرقوا الجامع، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة للهجرة فلا حول ولا قوة إلا بالله([]).
3- مآسـي وأحـداث أخر:
ولم تكن فاجعة التتـار لتنتهي عند حدود هاتين المدينتين من مدن العالم الإسلامي رغم ما فيهما من مآسـي وأحزان تكفي الواحدة منهما لتكون ملحمة ترويها الأجيال، ويتعب في سبيل تدوين أحداثها المؤرخون والكتاب، لكن الفاجعة سرت في الأقطار الإسلامية سريان النار في الهشيم، فإثر أحداث سمرقنـد سيّـر ((جنكز خان)) مجموعة من جنده يقال لهم ((المغربة)) لأنهم ساروا إلى ((غرب خرسان)) في طلب ((خوارزم شاه)) وقال لهم: ((اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه)).
وسـار هؤلاء يقطعـون الفيـافي والقفـاز ويحتالـون على عبور الميـاه
والأنهار، وحين اعترضتهم المياه الخمسة في ((ينج آب)) ولم يجدوا سفينة يعبرون عليها عمدوا إلى عمل أحواض من الخشب وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة([]).
ومع أن المسلمين قد ملئوا رعبا من هؤلاء إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر ((جيحون)) يحجز بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، وواصل التتـر مسيرهم وفسادهم؛ يرحلون من بلد إلى آخر وقل أن تسلم بلدة من شرهم، وعاثوا فسادا في نيسابور، وما زندران، والري وهمذان، وأذربيجان، وإربل وغيرها من بلاد المسلمين.
وكان للتتـر عوائد سيئة وجبارة، وحيل ماكرة وخبيثة؛ فمن عوائدهم أنهم إذا قصدوا مدينة ورأوا مناعتها عدلوا عنها إلى غيرها، ومنها أنهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرها([]).
وكانوا يتقون بهؤلاء الأسارى من الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب([]).
وأسوأ من ذلك أنهم يستخدمون الأسارى أداة في استخراج المختفين من بطشهم، فكانوا يقولون للأسرى نادوا في الدروب أن التتـر قد رحلوا، فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل([]).
وهل أسوأ من هذا وأذل ؟ وقد تركت هذه الأحداث المؤلمة أثرها وخلفت حالة من الرعب والهلع عمّ الناس كلهم – إلا من رحم الله -، وأصيبوا بالضعف والمسكنة والمذلة والهوان، ويكفي شاهدا على ذلك ما سطره المؤرخون المعاصرون للحدث وغيرهم؛ فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلا من التتـر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء([]). وأن آخر من التتـر أخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى جاء التتري بسيف وقتله به([]).
قال ابن الأثير: بلغني أن امرأة من التتـر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرا([
وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس من التتـر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب ؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا. هذه حكاية يرويها ابن الأثير عن شاهد عيان، ثم يعلق عليها بقوله: وأمثال هذا كثير([]).
وقال أيضا: ووصل الخبر إلينا ونحن بالموصل أن التتـر ارتحلوا من مدينة ((مراغة)) خوفا من السيف([]).
أما أهل إربل فضاقوا بذلك ذرعا وقالوا هذا يوم عصيب([]).
وما بالهم لا يخافون، ولم لا يكون الفـزع بشكـل عـام من هـذه
الأمة المتوحشـة الظالمة، وقد أحـصى بعض المؤرخين ما قتلوه في يوم واحد في مدينة واحده وهي ((مـرو)) فبلغ سبعمائـة ألف إنسـان([]) !!!
رابعا:أحـداث بغداد وسقـوط الخلافة العباسيـة:
هذه المآسـي الموجعة وهذه الأحداث المزلزلة لم تكن نهاية المطاف لمصائب التتـر في بلاد المسلمين؛ فقد أعقبتها الكارثـة الكبرى والفتنة العظمى بوصول التتـر إلى بغداد وسقوطها في أيديهم وقتل الخليفة العباسي. وانتهاء الخلافة الإسلامية لبني العباس ويحيط الأسى بالقارئ وهو يطالع أحداث هذه السنة، ويكاد الألم يقطع قلب الكاتب وهو يدون أحداث هذه الفترة بآلامها وكوارثها وآثارها ونتائجها. وأسوق نموذجا لوصف الكارثة:
قال ابن كثيـر: ((ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجـال والنسـاء والولـدان والمشايـخ والكهـول والشبـان، ودخل كثيـر من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقـون عليهم الأبـواب فتفتحها التتـار إما بالكسر وإمـا بالنـار، ثم يدخلـون عليهم فيهربـون منهم إلى أعالـي الأمكنـة فيقتلونهم بالأسطحـة، حتـى
تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم إلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
وقد اختلف الناس في كمية من قتـل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة؛ فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي الف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان دخلوهم إلى بغداد في أواخر المحـرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصهم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبـر أبو العبـاس أحمـد وله خمـس وعشرون سنة ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسـر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسـر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل - والله أعلم – فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابـر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه ((المنظـرة)) فيذبح كما تذبـح الشـاة، ويؤسـر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القـرآن، وتعطلت المساجـد والجماعات والجمعـات شهور ببغداد.
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولمـا نودي ببغداد بالأمـان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتـى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكـر بعضهم
بعضا، فلا يعـرف الوالد ولده ولا الأخ أخـاه، وأخذهم الوبـاء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمـر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنـى))([]).
خامسا: أسباب المحنة وعوامل الإنتشـار:
يستطيع المتأمـل في محنة التتـر أن يرصد عددا من الأسباب ساهمت في دخول التتـر بلاد المسلمين، وأعانت على سرعـة انتشارهم ومن هذه الأسبـاب:
1- أسباب قدريـة كونيـة:
ولا شـك أن كل ما يقع في هذا الكـون لا يخرج عن تقديـر الله وإرادته الكونية القدريـة يهيء أسبابه ويقدر أحداثه.
ومن هذه الأسبـاب التي هيأها لهؤلاء التتـر أن زمـن خروجهم اتفـق مع خلـو الأرض من عدد من الملـوك؛ وذلك أن خوارزم شاه كان قد قتـل الملـوك من سائر الممالك واستقـر في الأمـر، وكانت جميع البلاد المتاخمـة لبلاد التتـر تحت أيدي نوابـه، فلما انهـزم أمامهم في النهاية وهرب من أرضه وتخلـى عن سلطانـه خلت البلاد ولم يبـق لهـا من يحميها فساهم ذلك ولا شك في سرعـة انتشـارهم واستئصـال
شأفة المسلمين من حولهم([]).
والذي يلفت النظـر ويؤكـد أهمية هذا السبب أنه انتشـار مذهل عجب منه المؤرخون، ولم يستطيعوا مقارنته بما فعل ((بخت نصّر)) ببني إسرائيل على الرغم من كثرة قتله وتخريبه بيت المقدس.
ولم يبلغ ((الإسكندر المقدوني)) مبلغ هؤلاء القـم على الرغم من ملكه الدنيا كلها؛ وذلك أنه لم لم يملكها في سنة واحده، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء التتـر ملكوا أكثر المعمورة في نحو سنة، وأوسعوا الناس قتلا وإرهابا – كما سلف – ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف يترقب وصولهم.
فكيـف إذا أضفنا إلى ذلك طبيعـة هؤلاء التتـر وكثرة عددهم – إذ هـم يخرجون عن الإحصاء – وقوة بأسهم، وشده صبرهم على القتـال؛ فهم لا يعرفون هزيمة، وعدم حاجتهم إلى غيرهم؛ فهم يعملون ما يحتاجـون إليه من السـلاح بأيهديم، ولا يحتاجـون إلى ميـرة ومـدد يأتيهم؛ فمعهم الأغنـام والبقـر والخيـل وغير ذلك من الدواب؛ يأكلون لحومها لا غيـر، وأمـا دوابهم التـي يركبـون فإنهـا تحفـر الأرض بحوافـرها
وتأكل عـروق النبـات؛ لا تعرف الشعير؛ فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجـون إلى شيء من خارج.
2- ضعف همم ملوك الإسلام وانحسار سلطان الخلافة:
وفي مقابل قوة هؤلاء التتـر وشدة بأسهم واجتماع كلمتهم فقد ساهم في سرعة انتشارهم وسيطرتهم على مدن العالم الإسلامي وحواضره ضعف ملوك الإسلام في تلك الفتـرة بعامة، وانشغالهم عن الجهاد باللهو واللعب. وهذا المؤرخ ابن الأثيـر – يرحمه الله – ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين فيقول معلقا على أحداث سنة 628هـ ما نصه: ((فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين؛ بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...)([]) .
وليسـت أوضاع الخلافـة العباسيـة ولا الخلفاء العباسييـن بمعـزل عن هـذا الوضـع المتردي؛ فقد انحسـر سلطـان الخلافـة وانكمشـت حدود العباسيين، واستقـل غيرهم بالسلطة في حكـم أجزاء من العالم الإسلامـي، وهو أمـر لم يكـن سائغا في ظـل حكـم الدولة الأمويـة، هذا
فضـلا عن اشتغال الخلفـاء العباسيين بالشهـوات وجمع الأمـوال في أكثـر الأوقـات.
هذه الحقائق يجليها لنا ابن كثير عليه رحمة الله في محاولة منه لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية على أيدي التتـر فيقول: ((ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصـار، فإنه خرج عن بني العبـاس بلاد المغـرب ... وكذلك أخـذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهـر وتداولتها الملوك دولا بعد دول حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلا بغداد وبعض بـلاد العـراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات))([]).
ويقول ((الكتبي)) في وصف آخر خلفاء بني العباس وما كان عليه من ضعف الهمة والإشتغال بما لا ينبغي الإشتغال به: ((كان المستعصم متدينا متمسكا بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده، ولم يكن على ما كانوا عليه من التيقظ والهمة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقظ، نازل الهمة محبا للمال، مهملا للأمور يتكل فيها على غيـره))(
ويقول ((قطب الدين اليونيني)) قريبا من ذلك ويضيف: ((.. وإنما قدموه على عمه الخفاجـي لما يعلمون من لينه وانقيـاده وضعف رأيه ليستبـدوا بالأمـور))([]).
وإذا صح ما ينسبه إليه ((ابن العبـري)) من ضعف الهمة وزهده بأقطـار الخـلافة عدا بغـداد فهي طامة كبـرى؛ إذ ينسب إلى ((المستعصم)) قوله: ((أنا بغداد تكفيني ولا يستكثـرونها لي إذا نزلت لهم عن باقـي البـلاد، ولا أيضا يهجمون عليّ وأنا بها، وهي بيتي دار مقامـي))([]).
وعلى كل حال فيبدو أن ضعف ((المستعصم)) معـروف حتى عند ((التتـر)) ولذا كانوا يسمونـه ((الأَبْلَه))([]).
ولا شـك أن استخفاف وزيـره ((ابن العلقمـي)) به، ومخادعته له وخيانته إيـاه وتصريـف الأمور دونه ساهمت في إيصال الخليفة والخـلافة إلى ما صـارت إليه([]).
وفي الوقـت الذي كـان التتـر فيه يحاصرون بغـداد ويحيطـون بدار الخلافـة يرشقونها بالنبـال من كـل جانب ذكـر أن جاريـة كانـت
تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظايـاه وتسمى ((عرفة)) فجاءها سهم من بعض الشبابيـك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفـة، فانزعج الخليفـة من ذلك وفزع فزعـا شديدا، وأحضـر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتـوب: إذا أراد الله إنفـاذ قضائـه وقدره أذهب من ذوي العقـول عقولهم([]).
وأمر الخليفة عنـد ذلك بزيـادة الإحتـراز وكثـرت الستائر على دار الخلافـة، ولكن الأمـر أكبر من ذلك وأعظـم.
ولم يقف هذا الضعـف والهـوان عند حدود دول المشرق الإسلامي، أو ينتهي بضعف مركز الخليفة العباسـي، وضمور سلطان الخلافة العباسـة، بل جـاوز ذلك إلى ملوك وسلاطين المسلمين في بلاد الشـام ومصـر، فقد ذكر ابن كثيـر – في أحداث سنة 658هـ - أن سلطان دمشق وحلب (الملك الناصر بن العزيز)، وملك الكرك والشوبـك (الملك المغيث بن العادل) قد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، ومعهما الأمير ركن الدين (بيبرس البندقداري)
وقبل ذلك ذكـر ((الذهبـي)) أن عسكـر الناصـر سار سنة 656هـ
وعليهم ((المغيـث)) بن صاحب الكـرك، ليأخذوا مصر، فالتقاهم (المظفر قطز) وهو نائب (للمنصور علي ولد المعز) بالرمـل فكسرهم وأسر جماعة أمراء فضـرب أعناقهم([]).
وقبل ذلك كذلك في سنـة 642هـ كان حصار ((الخوارزمية)) على ((دمشق)) في خدمة صاحب ((مصر)) واشتـد القحط حتى التقى بهم ((الشاميـون)) ومعهم عسكر من ((الفرنج)) بين ((عسقلان)) ((وغزة)) فانهزم الجمعان وحصدت ((الخوارزمية)) ((الفرنج)) واندك صاحب ((حمص)) ونهبت خزائنه وبكى وقال – معبرا عن سر الهزيمة – ((قد علمت بأنا لا نفلح لما سرنا تحت ((الصلبان))([])
قال ابن الأثيـر واصفا أحوال المسلمين في هذه الفتـرة بشكل عـام: ((فمن سلم من المسلمين من هاتين الطائفتيـن (التتـرـ والفرنج) فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق))([]).
إذا علم ذلك كله أمكن تصـور سرعة انتشارهم وضعف المقاومـة أمامهم، وملء الرعب في قلوب الناس من حولهم، والله غالـب على أمره.
3- أسباب سياسية وظروف اقتصادية:
وخلاصة هذا السبب اجتهـاد خاطئ وقع فيه خوارزم شاه في سياسته مع هؤلاء التتـر، ولا سيمـا في حادثة قتل التجار وأخذ ما معهم من الأمـوال – كما سبق البيـان-.
وأضيف هنا ما ذكره ابن الأثيـر كذلك في هذا الصـدد، وخلاصته التضييق الإقتصادي على جند التتـر ومنعهم الميـرة والكسـوات وغيرها مما كان يصل إليهم من قبـل؛ وذلك أن خوارزم شاه بعد أن ملك ما وراء النهر وخلصها من ملوك ((الخطا)) سد الطريق عن بلاد تركستـان وما بعدها من البـلاد، وأن طائفة من التتـر كانوا قد خرجوا قديما والبـلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد منهم وقتلهم، واستولى هؤلاء التتـر على تركستـان: كإشغار وبلاساغـون وغيرها وصاروا يحاربون عساكـر خوارزم شاه، فلذلك منع الميـرة عنهم من الكسوات وغيرها([]).
وليس بغريب أن يدعوهم هذا التضييق إلى التحرش بمن ضيق عليهم والإنتقام لأنفسهم، وتأمين أسباب العيش لهم ولجندهم فكان ما كان والله المستعان.
وبعد، فيصح القول بأن الظلم مرتعه وخيم، وأن الله يعاقب عليه بخراب البـلاد وفناء الأمم الظالمة إن عاجلا أو آجلا، ولا يسلم من ذلك المسلمون.
والعدل به قامت السماوات والأرض، وقد يُمكّن الله لأصحابه وإن كانوا كافرين، وقد نقل شيخ الإسـلام ابن تيمية رحمه الله: ((إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة))([]).
كمـا نقـل: ((الدنيا تدوم مع العـدل والكفـر، ولا تدوم مع الظلـم الإسـلام))(
واستشهـد بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((ليس ذنب أسرع عقوبة من البغـي وقطيعة الرحـم))([]). ثم قال: ((فالباغـي يصرع في الدنيا وإن كان مغفـورا له مرحوما في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعـدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة)) .
وليس بمستبعد أن يكون قتل التجار المستأمنيـن – وإن كانوا غير مسلمين – على أيدي المسلمين سببا في تسلط هؤلاء التتـر على المسلمين وخراب بلادهم وسقوط الخلافـة العباسية على أيديهم.
4- مواقف الملأ وخيانات أصحاب الملل والنحل والأهواء:
وتلك قاصمة الظهر، والحدث الذي يحتاج إلى جـلاء، والأدوار الخفية التي تحتاج إلى بيان، وهو السؤال المهم في هذا البحث: كيف دخل التتـر بلاد المسلمين؟
ولا أدري أيقصد ابن الأثيـر الإشارة إلى شيء من ذلك أم لا حينما قال: ((وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر)) وامتنع عن كشفه وهو يقول:
فكـان ما كـان مما لست أذكـره فظـن خيرا ولا تسأل عن الخبـر([])
وأيا كان الأمر فسنتتبع هذا الأمر، ونجيب على هذه التساؤلات من خلال بيان المواقف التالية:
أ- الخليفة العباسـي (الناصر):
هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، ولي الخلافة سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة وله ثلاث وعشرون سنة، وتوفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ولم يل الخلافة – من بني العباس – أطول مدة منه([]) فكانت خلافته سبعا وأربعين سنة([]).
أما عن تشيعه فقد قال ابن واصل: كان الناصر لدين الله يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية، وهو خلاف ما كان عليه آباؤه من القادر إلى المستضيء؛ فإنهم كانوا يذهبون مذهب السلف، وللقادر عقيدة مشهورة في ذلك([]).
وسئل ((ابن الجوزي)) و((الناصر)) يسمع: ((من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أفضلهم من كانت بنته تحته))([]) وبهذه الإجابة الجيدة قطع ابن الجوزي الطريق على السائل الذي كان يريد منه إجابة تخالف رأي الخليفة الناصر، لأن الإجابة تنطبق على أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما.
ومن المؤشرات على تشيع ((الناصـر)) كذلك أن الشيعة يعتبرونه من أعلام المائـة السابعة للشيعة([])، ويرون أن ((الشيعة)) في عهـده أخذت بالظهور والإنتشار في بغـداد من جديد بعد الإضطهادات التي لاقـوها بعد زوال آل بويـه !!([]) .
ويقول ((ابن الطقطقي)): كان من أفاضل الخلفاء، يفاوض العلماء، وكان يرى رأي الإمامية([]).
وحين كتب إليه ابن صلاح الدين (نور الدين علي) – ويقال إنه كان يتظاهر بالتشيع - شكاية عن أخيه العزيز وعمه العادل قال فيها:
مـــولاي إن أبا بكــر وصـاحبه عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
ذي ســـــنة بين الأنام قديمــة أبدا أبو بكــر يجـور على علي
أجابه الناصر:
غصبـوا علياَ حقه إذ لم يكـن بعـد النبـي له بيثرب ناصــر
فابشـر فإن غدا عليه حسابهم واصبـر فناصرك الإمام الناصر([])
قال ابن كثيـر: وكان الناصـر شيعيا مثله([])، كمـا ذكر الصفـدي أن التشيـع ظهـر في خلافـة الناصـر بسبب ابن الصاحب ثم انطفـى بهلاكه وظهـر التسنن المفـرط، ثم زال وظهر الفتـوة والبنـدق والحمـام الهادي
وتفنن الناس في ذلك([]).
كمـا نقل أيضا أن رسول صاحب ((مازندران)) لما دخل بغداد في عهد الناصر كان يأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، وصار يبالغ في الكتم والورقة تأتيه، فاختلى ليلة بإمرأة دخلت إليه من باب السـر فصبحته الورقة بذلك وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحيـر وخرج من بغـداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في الحامل وما وراء الجدار([]).
أما عن موقفه مع ((التتـر)) فيقول ابن الأثيـر: ((وإن كان([]) ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتـر في البلاد، وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبـرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم([]).
وفي مرآة الزمان قال سبط الجـوزي: قال لي المعظم بن العـادل: كتب إلى جلال الديـن ]بن خوارزم شـاه[ يقول: تجيء أنت واتفـق معي حتى نقصد الخليفة ]الناصـر[ فإنه كان السبب في هلاك أبـي ]خوارزم شاه[، وفي مجيء التتـار وجدنا كتبـه إلى الخطـا وتواقيعه لهم بالبـلاد
والخلع والخيل، فلم يوافقه المعظم على ذلك([]).
وبالجملة فقد حمّل عدد من المؤرخين القـدامى والمحدثين الخليفة العباسي الناصـر مسؤلية اختراق المغول لبلاد المسلمين حينما حرضهم على غـزو الأراضـي الخوارزمية، ورأي فيهم القوة القادرة على رد السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد – خصمه – إلى صوابه.
فمن القدامى أمثال: ابن الفرات وأبي الفداء، والمقريزي.
ومن المحدثين أمثال: حافظ حمدي.
ومن الأوربيين أمثال: دوسون، وهورث، وبروان، وكيرتن، وميور، وجرينا، وهارولد لام.
وفي مقابل ذلك كله يرفض الدكتـور القـزاز ما نسب إلى الخليفـة الناصـر، لكنه يوجهه بتقصير الخليفة وعدم تقديـره لمسؤليته كخليفـة للمسلمين([]).
ب- موقـف الملك الرحيـم:
البـدر لؤلؤ صاحب الموصل([]) والملقب بالملك الرحيـم، ملك الموصل نحوا من خمسين سنـة، وهو الذي أزال الدولة الأتابكيـة عن الموصل – وهم أسيـاده – وكان فيه نزعة تشيـع إذ كان يبعث في كل سنـة إلى ((مشهد علي)) قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، قال ابن كثيـر: وهذا دليل على قلة عقله وتشيعه([]).
أما أصله فكان أرمنيا حتى نقل عنه الذهبي أنه كان يحتفل لعيد الشعانين لبقايا فيه من شعار أهله، وكان يمد سماطا عظيما للغاية ويحضر المغاني وتدار في غضون ذلك أواني الخمـور، ويتخاطف الناس ما ينثره من الذهب في ذلك اليوم، فمقت لإحيـاء شعار النصارى وقيل فيه:
يعظم أعيـاد النصـارى محبة ويزعم أن الله عيسى ابن مريـم
إذا نبهـته نخـوة أرْيحــيّة إلى المجـد قالت أرمنيته: نم([])
أما عن مساهمته في دخول التتـر بلاد المسلمين، فقـد ذكـر الحافـظ
ابن كثير أن جنـود التتـر حين نازلت بغداد سنـة ست وخمسين وستمائة جاءت إليهم أمـداد صاحب الموصـل – يساعدونهم على البغـاددة – وميرته وهدايـاه وتحفه؛ وكل ذلك خوفا على نفسه من التتـار ومصانعة لهم([]).
وقال الذهبي عنه: وكان يصانع التتـار وملوك الإسـلام([]).
بل نقل بعض المؤرخين أن ((صاحب الموصل)) كان من بين المحرضيـن لهولاكو على قتل الخليفة العباسـي.([]) وحين انفصل هولاكو خان عن بغداد – بعد الوقعة الفظيعة العظيمة – سار الملك الرحيم إلى خدمته طاعة له ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمـه ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيـرة، ثم مات([]).
ونقل الذهبـي أنه قلد هولاكـو جوهـرة يتيمة قدمها هديـة له وطلب أن يضعها في أذن هولاكـو فأتكـأ ففـرك أذنه وأدخـل الحلقة في أذنـه،
وأن الملك الرحيم عاد إلى بلاده (الموصـل) متوليا من قبل هولاكو، وقرر عليه مالاً يحمله([]).
بل زاد مستوى العلاقة بين الملك الرحيم وأسرته وبين التتـر حتى بلغ المصاهرة فقد تزوج ولده الملك الصالح إسماعيل ابنة هولاكوا، لكن ذلك لم يدم طويلا إذ أغضب الصالح إسماعيل ابنة هولاكو وأغارها، فنازلت التتـر الموصل واستمر الحصار عشرة أشهر ثم أخذت، وخرج إليهم الصالح بالأمان فغدروا به واستباحوا الموصل([]).
وتلك عاقبة المواطأة مع الكفار، ونتيجة معجلة لممالأة الفجار، ممن لا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
جـ- الوزيـر ابن العلقمـي:
هو أبو طالب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن علي بن أبي طالب ابن العلقمي البغدادي الرافضي([]).
خفف من رافضيتـه ((الصفـدي)) حيـن قال: أظهـر الرفـض قليـلا. وبالغ في تسنن خصمه الدوادار حيـن قـال: إنه كان يتغالـى في
السنة ([]) فخالف في ذلك غيره – كما سيتضح.
قال السبكـي: كان شيعيا رافضيا في قلبه غل على الإسلام وأهله([]).
تولى الوزارة للخليفة العباسـي ((المستعصم)) مدة أربع عشرة سنة أفشى خلافها الرفض فعارضتـه السنة فكبت فتنمّـر
وكان – كمـا قال ابن ثيـر – رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسـلام وأهله([]).
وقال في موضع آخر: ((كان شيعيا جلدا ورافضيا خبيثا))([]).
مولده في شهر ربيـع الأول سنـة إحدى وتسعيـن وخمس مائة، وهلك في أوائل سنة سبع وخمسين وست مائة([]).
موقف ابن العلقمـي وخطواته:
أما عن موقفه مع التتـر فهو موقف الخزي والعار؛ إذ سعى في دمار الإسلام وخراب بغـداد كما قال الصفـدي([]).
ومالأ على الإسـلام وأهله الكفـار حتى فعل مـا فعل بالإسـلام وأهلـه([]). وهو الذي حفـر للأمة قليـبا فأُوقِـع فيه قريبا – كمـا قال الذهبـي -([]) .
المكاتبـة:
لقد كاتب ((هولاكو)) وجسّـره وقوى عزمه على قصد العـراق ليتخـذ عنده يـداً وليتمكـن من أغراضـه(3).
بل لقـد جر هولاكو وقرر معه أمورا انعكسـت عليه([]).
واستخدم في هذه المكاتبات شتـى الحيـل وبلغ نهاية المكـر، قد حكي أنه لمـا كان يكاتب التتـار تحيّـل مرة إلى أن أخذ رجلا وحلق رأسـه حلقـا بليغـا وكتب ما أراد عليه بوخز الأبر كمـا يفعل بالوشـم، ونفـض
عليه الكحـل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب فجهزه وقال: إذا وصلت التتـر مرهم بحلق رأسك ودعهم يقـرأون ما فيه، وكان في آخـر الكلام: قطِّعوا الورقـة، فضربت رقبته، وهذا غايـة في المكر والخـزي – كمـا قال الصفـدي([]) -.
الخطـوات السابقـة:
ولم تكن سياسة المكاتبـة مع التتـر هي الأولـى في هذا السياق، بل سبقتها خطـوات مهَّـدت لها وكانت بمثابـة الأرضيـة والمقـدمة لما بعدها؛ فقـد اتخذ ابن العلقمـي سياسة خبيثة – في إضعـاف جيش الخلافـة ساهمت في دخـول التتـر بغـداد دون مقاومـة تذكـر، إذ اجتهد قبتل مجيء التتـر في صرف الجيـوش وإسقاط اسمهم من الديـوان وصرفهم عن إقطاعاتهم، ونجح في ذلك إذ كانت العساكـر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف – منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسـر – فلم يزل ابن العلقمـي مجتهدا في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشـرة آلاف في أواخـر أيام المستعصم([]).
ويقـول الذهبـي: ((استوزر ((المستعصم)) ابن العلقمـي الرافضـي فأهلك الحرث والنسـل، وحسّـن له جمـع الأمـوال، وأن يقتصـر علـى
بعض العساكـر، فقطع أكثـرهم))([]).
وبلغت حالة الجيش وعساكر الخلافـة بالذات مبلغا من الـذل والهـوان، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجـد، وحق للشعراء أن ينشـدوا فيهم الشعـر ويرثوهـم بالقصائد، وينعـوا على الإسلام وأهلـه([]).
وكـان ذلك بسبب سياسة هذا الرافضي المغرض الذي عبـر عن سياسته وأثـر وزارته على المستعصم ابن كثيـر حين قال: ((إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة))([]).
وقال في موصع آخر: ((إنه كان وزيـر سـوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين))([]).
فلما تحقق لابن العلقمـي ما أراد، كاتب التتـار وأطمعهم في أخذ البـلاد وسهل عليهم ذلك، وحكـى لهم حقيقة الحـال، وكشـف لهم ضعـف الرجـال([]).
وهكـذا تبـدو سياسة ابن العلقمـي بعيـدة الغـور سيئة القصد، ولا يحيق المكـر السيء إلا بأهله – كمـا سيتضح بعد.
الخطوة الثالثة: الغدر بالقضاة والفقهاء وقتل الخليفة:
ولم تقف سياسة ابن العلقمي عند هذا الحد، فقد بادر بإتخـاذ الخطـوة العملية حين قدم التتـار، وكان أول من بـرز إليهم فخـرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بهولاكو ثم عاد فأشـار على الخليفة بالخروج إليه والمثـول بين يديه لتقـع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤساء الأمراء والدولة والأعيـان، فلما اقتربوا من منزل هولاكو حُجِبو عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا خلص بهم الخليفة، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، ويقال إنه اضطرب في كلامه من هول ما رأى من الإهانات والجبروت، ثم أعيد إلى بغـداد تحت الحوطة والمصادرة يحيط به الطوسـي وابن العلقمـي الرافضيان، ونهب من دار الخلافـة أشياء كثيرة من الذهـب والحلي والأشياء النفيسـة، ثم أشـار هؤلاء الرافضة على هولاكـو بعدم مصالحة الخليفة وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمـر إلى ما كـان قبل ذلك، وحسنـوا له قتله،
ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمـي، ونصير الدين الطوسـي، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله([]).
ويقال إن الخليفة قتـل رفسا وهو في جوالق لئـلا يقع على الأرض شيء من دمه فيؤخـذ بثـأره وقيل بل خنق، ويقال إنه أغـرق. والله أعلم([]).
أسباب المؤامـرة:
ويبقـى بعد ذلك السـؤال المهم: لماذا فعل ابن العلقمـي ما فعل وأحـل بدار الخلافة ما حـل ؟
وإجابة السؤال تتضح من خـلال منظوريـن، عام، وخاص، وإليك البيـان:
المنظور العـام:
أما العام فخلاصتـه خبث طوية الروافـض بشكل عـام على أهل السنـة وتظرف معتقدهم فيهم، وعدم تحرجهم من التعـاون مع الكفـار على إبـادة المسلمين السنـة، ويكشـف لنا هذه الحقيقـة بجـلاء شيخ الإسـلام ابن تيمية في أكثر من كتـاب، وفي أكثر من موضـع في الكتـاب
الواحد. وينقـل من معتقداتـهم أنهم يكفـرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضيّ عنهم كمـا رضي الله عنهم ... ويستحلون دمـاء من خـرج عنهم، ويسمـون مذهبهم مذهب الجمهور ... ويـرون في أهل الشـام ومصر والحجـاز والمغـرب واليمن والعراق والجزيـرة وسائـر بـلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم ... ويرون أن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى لأن أولئك عندهم كفـار أصليون وهؤلاء مرتدون ...
ولهذا السبب – كما قال ابن تيميـة – يعاونـون الكفـار على الجمهور من المسلمين؛ فيعاونون التتـار على الجمهـور، وهم كانـوا من أعظم الأسباب في خروج جنكز خان ملك الكفـار إلى بلاد الإسـلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحيـة وغير ذلك بخبثهم ومكرهم لمـا دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من تـوزر منهم([]).
وقال أيضا: ((وهؤلاء – يعني الرافضة – من أعظم من أعان التتـار على المسلمين باليـد واللسـان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك؛ لمباينـة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى، ولهذا كان ملك الكفـار هولاكو يقـرر أصنامهم))([]).
ونقـل أيضا أن الرافضة – بشكل عام – من أهل الجبـل، والجرد، والكسروان، وأهل جزين وما حواليها وسائـر أهل هذا المذهـب فرحوا بمقدم التتـار إلى بـلاد المسلمين([]) ...
ويربـط ابن تيميـة بين موقـف الرافضـة بشكل عام من أهـل السنـة وموقف ابن العلقمـي وأمثاله بشكل خاص ويكشف عن عوامـل ذلك فيقـول:
((والرافضـة تحب التتـار ودولتهم لأنه يحصـل لهم بها من العـز ما لا يحصل بدولة المسلمين، والرافضـة هم معاونـون للمشركين واليهـود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانـوا من أعظم الأسباب في دخـول التتـار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسـان والعراق والشام، وكانوا أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبـلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمـي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس... وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركيـن كان ذلك غصة عند الرافضـة، وإذا غلب المشركـون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسـرة عند الرافضـة.([])
وفي ((منهاج السنة)) قال شيـخ الإسلام ابن تيميـة يرحمه الله ((وكثيـر منهم – يعني الروافـض – يواد الكفـار من وسط قلبه أكثـر من موادته للمسلمين، ولهـذا لمـا خرج التـرك الكفـار من جهة المشـرق وقتلوا المسلمين وسفكـوا دماءهم ببـلاد خراسـان والعـراق والشـام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانـوا بالشـام وحلب وغيرهما من الروافـض كانـوا أشد الناس معاونـة لهم على قتـال المسلمين ... إلى أن يقول: فهم دائمـا يوالـون الكفـار من المشركيـن واليهود والنصـارى ويعاونونهم على قتـال المسلمين ومعاداتهم))([]).
السبب الخـاص:
فإذا اتضح المنظـور العام أمكن فهم السبب الخـاص في موقف ابن العلقمـي مع التتـر في إطاره ولم يفصـل عنه، وقد ذكـر المؤرخون أن الذي حمل ابن العلقمـي على موقفه من التتـر أن أبا بكر بن الخليفة المستعصهم والدويدار الصغير قد شـدا على أيـدي السنة حتـى نهب الكـرخ وتمّ على الشيعـة بـلاء عظيم، فحنق لذلك ابن العلقمـي وأراد الثـأر بسيف التتـار من السنة([]). وكاتـب هولاكو، وطمّعـه في العـراق،
فجاءت رسل هولاكو إلى بغـداد، وفي الباطـن معهم فرمانات لغيـر واحد والخليفة لا يـدري ما يتم([]).
ونقـل الذهبـي – في إطـار العلاقـات السريّـة المشبوهة أنه قدم إلى بغـداد رسـولان من التتـر واجتمعا بابن العلقمـي وتعمّت الأخبـار([]).
وقال الصفـدي: فحصل عنـده – بسبب ذلك – من الضغن ما أوجب له أنه سعـى في دمـار الإسلام وخراب بغـداد على مـا هو مشهـور أنه ضعف جانبه وقويـت شوكـة الدوادار بحاشيـة الخليفة حتى قال في شعره:
وزير رضـي من بأسـه وانتقـامه بطي رقاع حشـوها النظم والنثر
كمـا تسجع الورقاء وهي حمامـة وليس لها نهي يطاع ولا أمـر([])
وقال ابن كثيـر: ((ولمـا كـان في السنة الماضيـة ]يعني سنة خمس وخمسين وستمائة[ كـان بين أهـل السنة والرافضـة حـرب عظيمة نهبت فيها الكـرخ ومحلة الرافضـة حتـى نهبت دور قرابـات الوزيـر (ابن العلقمـي) فاشتـد حنقه على ذلك فكـان هذا ممـا أهاجه على أن دبّـر على
الإسلام وأهله ما وقع من الأمـر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغـداد وإلى هذه الأوقـات))([]).
وربمـا اجتمع إلى هذه وتلك الوعـود الطيبة التي بذلها ((المغـول)) وأغرت ((ابن العلقمـي))، والوفـاق والتعاون مع نظيـره في المعتقد والتعصب ((الطوسـي)) والذي أصبح وزيرا لهولاكو([]).
المكـر السيء يحيق بأهله:
ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ودخل التتـار وجندهم بغداد ووقع ما وقع من الظلم والفسـاد وسفك الدمـاء وهتك الأعـراض، ولم يكن ابن العلقمـي بعيدا عن ذلك كله ولا سالما منه ألبتة، وقد أحسن الظـن الذهبـي في تعبيره وكان دقيقا في وصف حالته حين قال: ((وحفـر للأمة قليبا فأُوقِـع فيه قريبا، وذاق الهـوان، وبقي يركب كديشا وحده بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب السلطان؛ فمات غبنا وغما، وفي الآخـرة أشد خزيـا وأشد تنكيـل([]).
ونقـل ((الصفـدي)) ندم ((ابن العلقمـي)) حيث لا ينفعه النـدم – وكان كثيـرا ما يقول: وجرى القضـاء بعكس ما أمّلته – لأنه عومـل
بأنواع الهـوان من أراذل التتـار والمرتدة؛ حكـي أنه كـان في الديوان جالسا فدخل بعض التتـار ممن لا وجاهة له راكبا فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهـوان يظهر قـوة النفس وأنه بلغ مراده .
ولم تكن الشيعة بشكل عام – وهم أهل وعشيرته – بمنأى عن هذه الجرائم والمآثـم، وعجيب أن يكون حنقه على أهـل السنة، وحميته للشيعة تبيح له ذلك كله. ويروى أن بعض أهل بغـداد قال له: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه وحميت الشيعة حميّة لهم، وقد قتل من الأشراف الفاطميين خلق لا يحصـون، وارتكب من الفواحش مع نسائهم وفضّـت أبكارهم مما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال: بعـد أن قتل الدوادار ومن كـان على مثل رأيه لا مبـالاة بذلك .
ويقـول ابن الوردي: ((أراد ((ابن العلقمـي)) نصـرة الشيعـة فنصـر عليهم، وحـاول الدفـع عنهم فـدفع إليهم، وسعـى ولكـن في فسادهم، وعاضـد ولكن على سبـي حـريمهم وأولادهم، وجـاء بجيـوش سلبـت عنهم النعمـة ونكبـت الإمـام والأمـة، وسفـكـت
دمـاء الشيعة والسنة) .
وأخيـرا ذهب ابن العلقمـي ضحية ما اقترفته يـداه، ومـات بعد دخول التتـر بغـداد بثلاثة أشهـر غما وغبنا. ويقال إن امـرأة رأته وهو في الذل والهـوان وهو راكب في أيام التتـر برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضـرب فرسه فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا ابن العلقمـي، هكـذا كان بنو العبـاس يعاملونك ؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مـات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة.
وبلغ إذلال ((التتـر)) له أن جعلوه تابعا لشخص يدعـى ((ابن عمران)) كـان خادما في دولة المستعصـم بل نقـل ((النويـري)) ما هو أشـد من ذلك، إذ استدعـاه ((هولاكو)) فلما مثـل بين يديه سبّـه ووبخه على عـدم موافاته لمـن هو غذي نعمته، وأمـر بقتله فقتـل، وقيل لم يقتله وذكر ((السيـوطي)) أنه صار معهم في صـورة بعض الغلمـان، وأنه مـات كمـدا .
إنكار الحقائق خلل في المنهج:
وعلى الرغم من وضوح الحقيقة، وتضافر المصادر على ذكر هذا الموقف المخزي لابن العلقمـي، فثمة آراء غريبة لبعض الشيعة المعاصرين تحـاول توهين الحقيقة، وتظـن بذلك أنها تدفع عن الشيعة عـار هذا الموقـف وخزيه، ولكـن الحقيقة فوق هذا التوهـين ، وهي من الثبـوت في مصادر الشنة والشيعة أيضا بحيث لا تقبـل النقض والإبـرام، وإليك نموذجـا لهؤلاء:
يقول الدكتـور القفـاري: ((ومن الغريب أنه نبتت نابتة في هـذا العصـر من الروافـض وحاول توهين القصـة، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جـاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيـل ت665هـ كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصـرة زمانية لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصرة المكانية).
يقـول الدكتـور القفـاري: ((ثم بحثت في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبـار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفـات:
1_ أن الشيعة يعتبـرونه من رجالهم.
2- أنه من بغـداد.
3- أنه متوفـى سنة 674هـ؛ فهو شيعـي بغـدادي معاصر للحادثة ذلك هو الإمام الفقيه علي بن أنجـب المعروف بابن الساعي الذي قـال: (... وفي أيامه – يعني المستعصم – استولت التتـار على بغـداد وقتلوا الخليفة وبه انقضت الدولة العباسيـة من أرض العـراق، وسببه أن وزيـر الخليفة مؤيـد الدين ابن العلقمـي كان رافضيـا ...) ))
على أن إنكـار الحقائق ليس سمـة الشيعة المعاصـرين فحسب بـل سبقهم إلى ذلك شيعة آخـرون؛ فهـذا ((ابن العلقمـي)) العلـوي ألف كتابه ((الفخـري في الآداب السلطانية)) سنة 701هـ في الموصل، ودافـع بحمـاس عن موقف ابن العلقمـي، بل غالى في الثنـاء على دولة المغـول بشكل مثيـر أبعـده عن الإنصاف كمـا يقول الزركلـي .
وممـا قاله في سبيـل الدفـاع عن موقف ابن العلقمـي: ((ونسبه الناس إلى أنه خامـر، وليس ذلك بصحيـح، ومن أقـوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة؛ فإن السلطـان هولاكو لمـا فتح بغـداد وقتل الخليفة سلم البلـد إلى الوزيـر وأحسـن إليه وحكـَّمه، فلو كان قـد خامـر على الخليفة لمـا وقع الوثـوق إليه)) .
ويظهـر للمتأمـل أن هذا الدليل من علائـم التهمة والمواطـأة لا من دلائل البـراءة والنـزاهة، ولكن ((ابن الطقطقـي)) لا يقف عند هـذا الحـد، بل يسـوق روايـة تفيد أنه ظـل وفيّاَ للمستعصم إلى آخـر لحظة، وأنه لم يلبِّ دعـوة هولاكوا إلا تحت ضغط الخليفة!([]).
وقد سبـق بيان مـا يكشف تهافت هذه الآراء والمرويات، ومع ذلك فقـد تصـدى الدكتـور الصياد للرد على ابن الطقطقـي وممأ قاله: ((إذا كان صاحب ((الفخـري)) قد دافع بحـرار عن موقف ابن العلقمـي وسقـى جاهدا لدفع تهمة الحيـانة عنه، فمـا ذلك إلا لأنه شيعي مستنيـر حس بفداحـة الجـرم الذي أقدم عليه صاحبه إذ كان بتصرفه هذا عاملا هاما في ضياع دولة وذهاب شخصية لها مقـام ديني كبير في نفـوس المسلمين، خصوصا وأن هذا التحـول الخطير قد تم على أيدي قوم من الكفـرة، ثم أن النكبة لم تكـن مقصورة على أهل السنة وحدهم بل كانت عامة شاملة قاسـى منها أهل السنة وأهل الشيعة .
ويبقـى بعد ذلك ردّ الشيعة بعضهم على بعض وتضـارب آرائهم دليـلا لا يستطيع الشيعة رفضـه بحجة أنه من خصومهم أهل السنة؛ فهـذا ((الششتـري)) ت1019هـ القاضـي – وهو مؤرخ شيعي كبير – يعترف صراحة بدور الرافضـة في سقوط بغـداد ويقول: ((إن ابن العلقمـي كاتب هولاكو، والخواجـة نصير الدين الطوسـي وحرضهما على تسخير بغـداد للإنتقام من العباسيين بسبب جفائهم لعتـرة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وآله)) .
وبمثـل ذلك يمكن إسقاط محـاولات الدفاع والتبرير الساذج عند ((أغابزرك الطهرانـي)) الذي قال: ((... ولو لم يكـن دهـاء ابن العلقمـي لمـا اختلف مصير بغـداد عن مصير ((تيسفـون)) التي انقطع عنا جل أخبارها))).
وبهـدا يتبين تهافت هذا الإنكـار، وتضافر كتب الشيعـة مع كتب السنـة على إثبـات دور ابن العلقمـي في سقـوط بغـداد ودخول التتـار. هذا فضـلا عن ثبوته في المصادر الأوربية([]).
د- النصيـر الطوسـي:
هو محمد بين محمد بن الحسن نصير الدين الطوسـي، أبو عبد الله، أو أبو جعفـر، أحد الفلاسفة والمنجمين، ولد بطوس – قرب نيسابـور – سنة سبع وتسعين وخمس مائة، ووفاته ببغـداد سنة اثنين وسبعين وست مائة([]). كان له اهتمام بالعلوم العقلية، وكان رأسا في علوم الأوائـل، وله اهتمام بالفلسفة، وقد عدد الزركلي طائفة غير قليلة من كتبه([]).
أما عقيدته، فكـان فاسد المعتقد، حكم عليه بعض العلمـاء بالإلحاد ونسبوا إليه عبـادة الأصنـام، ورام تغيير القـرآن والصلاة فلم يقدر عليه؛ يقول ابن القيـم: ((نصـر في كتبه قدم العالم، وبطلان المعـاد، وإنكـار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخـل العالم ولا خارجه وليس فـوق العرش إله يعبـد ألبتة! واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمـام الملحدين ابن سينا مكـان القـرآن فلم يقـدر على ذلك فقال: هي قـرآن الخواص، وذاك قـرآن العوام، ورام تغيير الصـلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر، وتعلم السحـر في آخر الأمـر فكـان ساحرا يعبـد الأصنـام)) .
وقف ابن القيـم على كتاب له سماه ((مصارعة المصارعة)) عارض فيه الشهرستاني في كتاب ((المصارعة)) الذي رد فيه على ابن سينا في القول بقدم العالم وإنكـار المعـاد، ونفي علم الرب وقدرته، وخلقه للعالم. يقول ابن القيـم: ((وقفت على الكتابين فوجدت الطوسـي قد نصر أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعـل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبـور)) .
ثم يختم ابن القيـم القـول في معتقـده ويقـول: ((وبالجملة فكـان هذا الملحـد هو وأتباعه من الملحدين الكفارين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر))
ولعـل هذا يفسـر لنا علاقتـه ((بالإسماعيليـة)) وتأليفه كتـاب ((أخلاق ناصـري)) لمحتشم الإسماعيليـة ناصـر الدين أبو الفتح عبد الرحيم ت655هـ .
بـل تحدثنا كتب التاريـخ أن الطوسـي كـان يقيم مع الإسماعيلية في قلعـة ((ميمـون دز)) . أما القول بأن إقامته – ومـن كان معه – مجبرين، وأنهم سئموا الإقامة عند الإسماعيليةفذلك يحتـاج إلى دليل يعضده. وإلا فكيـف نفهم أن الإسماعيلةي لفرط ثقتهم فهي وتقدمه عندهم كـان هو مبعوثهم إلى هولاكو حينما هدد زعيمهم ((خورشـاه)) الذي استشار أركان دولته فاستقر رأيهم على أن يرشل إلى هولاكو الخواجة نصيـر الدين الطوسـي مع طائفة من الوزراء والأعيـان والأئمة ومعهم الهـدايا والتحف، فوصلوا إليه في شـوال سنة 654هـ. .
وكان الطوسـي كذلك على صلة ((بالنصيريـة)) وقد ألف كتـابا وضعه لهم، وليس بمقنع مقولـة الصفـدي – وهو ينقل هذا الخبر – ((وأنا أعتقد أنه ما يعتقده؛ لأن هذا فيلسوف وأولئك يعتقدون إلهية علي))( . فعقيـدة الطوسـي – السالفة- تخوله لمثل هذا وأزيـد.
ويبـدو أن الطوسـي يجيد التلوّن ولديه القدرة على العيش في أي بيئة، بدليل أنه أظهر الصدق والإخلاص عند مقابلته لهولاكو، الأمـر الذي جعل له عند هولاكو منـزلة عاليـة، فكـان يقربـه ويستـشيـره ويطيعـه.
وهو وإن وزر ((للإسماعيلية)) فقد كـان مرافقـا لـ((هولاكو)) حين افتتح قلاعهم ((الألمـوت))) ، وانتقـل من الوزارة عند ((الإسماعيليـة)) إلى الوزارة عند ((هولاكـو التتـري)) إذ انتخبه ليكون في خدمتـه كالوزيـر المشيـر.
والطوسـي هو مبعوث ((هولاكو)) إلى الحلّة .
وحين عـاد هولاكو إلى بغـداد كان الطوسـي مع ابن العلقمـي في صحبته، ويقال إنهم هم الذين حسَّـنوا له قتل الخليفة العباسـي وعدم المصالحة معه.
ويحـدد ((ابن القيـم)) دور ((الطوسـي)) مع التتـر في محنة بغـداد ويقول – إثر حديث عن الرافضة عموما-: ((ولمـا انتهت النوبة إلى نصيـر الشـرك والكفـر الملحـد وزير الملاحـدة، النصير الطوسـي وزير هولاكو، شفـا نفسه من أتباع الرسـول وأهل دينه فعرضهم على السيـف حتى شفـى إخوانه من الملاحـدة واشتفـى هو؛ فقتـل الخليفة والقضـاة
والفقهـاء والمحدثيـن، واستبقـى الفلاسفة والمنجميـن والطبائعيين والسحـرة ونقل أوقاف المدارس والمساجـد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأوليـاءه)).
هـ - مواقـف وأدوار أخـرى:
لم يكـن دور ((الرافضـة)) ينتهي عنـد حدّ هؤلاء، فثمـة شخصيـات ومواقـف أخرى نذكـر منها:
*موقـف الشيخ الرافضـي ((الفخـر محمد بن يوسف بن محمد الكنجـي)) الذي كان يصانع ((التتـر)) على أمـوال الناس، وكـان – كمـا قال ابن كثير – خبيث الطويـة مشرقيـا ممالئا لهم على أموال المسلمين، فقتلته ((العامـة)) وسـط الجامـع إثر انتصار المسلمين في معركة عين جالـوت.
*وموقـف ((محمـد بن الحسن المعـروف بابن طاووس الحلـي)) الذي أهدى كتابه ((البشـارة)) إلى ((هولاكو)) المغولـي، فسلم الحلة والنيـل والمشهدين من القتـل والنهب حين سقـوط بغـداد سنة 656هـ، وردّ إليه ((هولاكو)) النقابـة بالبـلاد الفراتيـة فحكم في ذلك قليلا ثم مات دارجاً.
*و((محمـد بن أبي العـز الحلـي)) الذي نقل الرافضة أنفسهم أنه اشتـرك مع ((سديـد الديـن)) والد العلامـة الحلـي، في كتابة الرسالة إلى هولاكو وطلب الأمان لأهل الحلة(
*ويعتـرف ((الرافضـة)) مرة أخرى أن بلـدة ((كاشـان)) قد نجت من فتنة هولاكو بسبب ((أفضل الدين الكاشانـي)) الذي كان معاصرا للطوسـي ويقال إنه خاله.
وهل تسلم ديـار الرافضة ومشاهدهم من بطـش التتـر لولا المصانعة والمواطـأة والمكاتبـة ؟
ولقـد بلغ الأمـر أن من دخـل دور الرافضة فهو آمن، وكذلك تخلّص ((ابن أبي الحديـد)) صاحب ((شرح نهـج البـلاغة)) من مقتلة المغـول لكونه في دار ابن العلقمـي، ثم حضـر عنـد الخواجـة نصير الدين الطوسـي ففوّض إليه خزائـن الكتب ببغـداد مع غيـره .
*وابن أبي الحديـد هذا وصفه ابن كثيـر بالغلـو في التشيع وذكـر علاقته بابن العلقمـي فقـال: ((كان حظيا عند الوزيـر ابن العلقمـي لمـا بينهما من المناسبة والمقارنة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة)).
ونقـل ((المجلسـي)) أن ابن أبي الحديـد ألف ((شرح نهج البلاغـة)) وأنشأ قصائـد ((السبع العلويـات)) لأجـل ابن العلقمـي وباسمه
* بل كـان منهم من ولي للمغـول كمـا كان ((محمد بن محمد بن محمد الجوينـي)) حاكما لـ((أصفهـان)) في عهد ((أبقاخان المغولـي))
وكذلك يبـدو أثـر التقارب والممالأة واضحا جليا بين الرافضة والتتـر، ولئن لم يستسغ بعض المؤرخيـن من أهل السنة ذكره كله أو بعضه في بطـون الكتب كمـا أشار ابن الأثيـر، فها هم المؤرخون الرافضة لا يرون بأسا من ذكره بل ربمـا اعتبـروه مفخـرة ودهاء كمـا وصف ((الطهرانـي)) دور ابن العلقمـي، وكمـا حاول ((ابن الطقطقـي)) المدافعـة لكن دون جـدوى0
و- دور الإسماعيليـة:
ومع التقـارب بين الرافضة الإسماعيليـة في المعتقد فقد كشـف ابن الأثيـر بجـلاء عن دور مبكـر ((للإسماعيليـة)) بدخول التتـر بلاد المسلمين؛ فقـد أرسل مقـدم الإسماعيليـة الملاحـدة سنة 628هـ إلى التتـر يعرفهم ضعف جـلال الدين بالهزيمـة الكائنـة عليه من علاء الدين
كيقبـاذ ومن الأشرف، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفـر به للوهن الذي صار إليه.
ويعلق ابن الأثيـر على سياسـة جـلال هذا ويقول: ((وكـان سيىء السيـرة، قبيح التدبيـر لملكه، لم يتـرك أحدا من الملوك المجاورين إلا عاداه ونازعه الملك وأسـاء مجاورته
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى